ذات صلة

تركيا تهدد بعملية خامسة في سوريا

أعلن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان أن بلاده ستشرع قريباً باستكمال إنشاء “مناطق آمنة بعمق 30 كيلومتراً”، على طول حدودها الجنوبية، داخل سوريا، وكانت أنقرة قد نفّذت أربع عمليات عسكرية في الأراضي السورية منذ عام 2016 كان آخرها عملية “نبع السلام” أواخر عام 2019. وليأتي قرار مجلس الأمن التركي لاحقاً، متسقاً مع ما قاله أردوغان، إذ أوضح بيان المجلس أن العمليات العسكرية الحالية والمستقبلية على طول الحدود الجنوبية للبلاد ضرورية لأمن تركيا، وأنها لا تستهدف سيادة جيرانها. الأمر الذي ترك باب التكهّنات مفتوحاً لمضيّ تركيا في مثل هكذا عملية وفي ظل مشهد دولي وإقليمي شديد التعقيد.

التوقيت والأسباب

اختار الرئيس التركي توقيتاً حرجاً لإعلانه عن رغبة بلاده تنفيذ عملية عسكرية خامسة داخل الأراضي السورية. وتأتي التهديدات في وقت تتحول فيه أنظار العالم إلى أوكرانيا والغزو الذي بدأته روسيا ضدها، منذ الرابع والعشرين من فبراير الماضي. وجاءت تهديدات إردوغان بالتزامن مع قضية الطلب الذي قدمته فنلندا والسويد من أجل الانضمام لحلف شمال الأطلسي (الناتو). وهو الأمر الذي تصر أنقرة على رفضه، وتشترط “ضمانات” تتعلق بالمنظمات التي تعتبرها إرهابية على طول حدودها(1). ويأمل أردوغان في استغلال قضية عضوية البلدين الاسكندنافيين للناتو كفرصة لتحقيق هدف يسعى إليه منذ فترة طويلة لتأسيس “منطقة عازلة” خالية من المقاتلين الكرد على طول الحدود التركية مع سوريا.

بيد أن التنازلات التي قد يحصل عليها الجانب التركي من الغرب ليست سوى عنصر واحد من حسابات “أردوغان” التي تتعلق أساساً بالديناميكيات السياسية الداخلية(2). إذ يرجئ محلّلون اختيار التوقيت والأسباب إلى أن إعلان أردوغان يهدف أيضاً لتعزيز دعم القوميين الأتراك لحكمه المستمر منذ عقدين مع استعداده لانتخابات صعبة العام المقبل. وأدت علميات عسكرية عبر الحدود من قبل إلى تعزيز شعبيته في استطلاعات الرأي. لذلك تأتي خطوته في وقت تظهر فيه استطلاعات الرأي تراجع التأييد له وحزبه الحاكم (العدالة والتنمية) وسط مشكلات اقتصادية محتدمة. وتجري تركيا انتخابات رئاسية وبرلمانية في 2023(3).

وسيعطي انتزاع المزيد من الأراضي من الكرد المجال لعودة ملايين اللاجئين السوريين غير المرغوب فيهم في تركيا، وقد يفسر هذا سبب صمت حزب الشعب الجمهوري وحليفه في “الحزب الجيد “عن خطط “أردوغان” بهذا الخصوص(4). وبالتالي فإن ورقة تنفيذ عمليات عسكرية بذريعة ملاحقة عناصر كردية تعتبرها أنقرة خطراً على أمنها القومي يُضعف موقف المعارضة لجهة اعتراضها على مثل هكذا عمليات، إذ تشترك أغلب قوى المعارضة مع الحكومة التركية في نظرتها لمسائل تطويق التطلّعات القومية الكردية في جوار تركيا.

المواقف من التهديدات التركية

بعد قليل من تهديدات أردوغان قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، نيد برايس، للصحفيين إن الولايات المتحدة “قلقة للغاية” إزاء هذا الإعلان، وأضاف “ندين أي تصعيد، ونؤيد الإبقاء على خطوط وقف إطلاق النار الراهنة”، إذ أن شن أي عملية تركيا عسكرية جديدة في شمال سوريا من شأن مثل هكذا تصعيد أن يعرض أرواح العسكريين الأميركيين المنتشرين في المنطقة للخطر(5). في حين قال السكرتير الصحفي للبنتاغون، جون كيربي، إنهم قلقون للغاية بشأن إعلان تركيا عزمها زيادة النشاط العسكري في شمال سوريا، وإن قلقهم يتعلق بسلامة السكان المدنيين في المنطقة وتأثير التوغل العسكري على القتال ضد داعش حيث يبتعد أعضاء قوات سوريا الديمقراطية عن عمليات مكافحة داعش في الشمال لصد التقدم التركي(6).

على العكس من مواقف واشنطن، لم تبدِ موسكو حتى اللحظة موقفاً واضحاً من التهديدات التركية، إذ يرجّح أن صمت موسكو مبنيّ في جزء منه على “موافقة موسكو الضمنية” على تصرفات أنقرة في مقابل حيادها في الصراع الأوكراني، ورفضها الانضمام إلى العقوبات الغربية ضد موسكو، وعرقلتها لانضمام فنلندا والسويد إلى منظمة حلف شمال الأطلسي “الناتو”(7). في حين استغلت روسيا ارتباك واشنطن أمام التهديدات التركية ليطلق وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف تصريحات تشكك في مصداقية وعود واشنطن لكرد سوريا “نشجعهم على إلقاء نظرة فاحصة على التاريخ الحديث. التاريخ المتعلق بوعود الولايات المتحدة بشيء ما لشخص ما، وكيف يتم الوفاء بهذه الوعود”(8)، وهو ما يعكس رغبة موسكو في الاستفادة من الضغوط التركية التي قد تدفع كرد سوريا إلى أحضان دمشق وموسكو.

أما الموقف الإيراني انسجم بدرجة أكبر مع موقف دمشق، إذ أبدت إيران اعتراضها على أي عملية من هذا النوع تقوم بها تركيا، وأضافت وزارة الخارجية الإيرانية أن العملية العسكرية المحتملة ستؤدي إلى “مزيد من التعقيد والتصعيد” في سوريا(9). وقد صرّح مسؤول في الخارجية السورية أن سوريا ترفض الأعمال العدائية العسكرية التي تشنها القوات التركية المحتلة شمال شرق سوريا(10).

عملية مفتوحة أم محدودة

كانت مصادر إخبارية تركية كشفت أن أنقرة أوشكت على الانتهاء من الاستعدادات لهجومين عسكريين جديدين على الجارتين سوريا والعراق، وذلك بعد يوم من إصدار مجلس الأمن القومي التركي بياناً سلط فيه الضوء على ضرورة التوغل على حدود البلاد الجنوبية والشرقية. في الوقت الذي قالت صحيفة “هابر ترك”، نقلاً عن مسؤولين عسكريين”، إن الاستعدادات اكتملت بنسبة 90 في المائة للتوغل في البلدين، وأن الهجمات ستظل مقصورة على غرب نهر الفرات. وأشار إلى أن منطقة تل رفعت تمثل صداعا لتركيا، فيما العناصر العربية داخل “الجيش الوطني السوري” تريد السيطرة على منبج(11).

وقد رأت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على لسان ناطقها آرام حنا أن “التهديدات التركية الأخيرة جدّية، فهي تترافق مع تصعيدٍ عسكري متكرر شمل خطوط التماس منذ مطلع شهر أبريل الماضي”(12)، فيما أكّد نوري محمود الناطق باسم وحدات حماية الشعب أنّ “نيّة رئيس النظام التركي أردوغان الحقيقية هي الوصول إلى حلب، وكركوك والموصل. لإعادة بناء خريطة ما يسمى الميثاق الملّي من جديد، ثمّ الانتقال إلى الخريطة العثمانية، وأن المناطق الكردية في شمال وشرق سوريا هي الهدف الأول للفاشية التركية”(13)، ويفهم من المخاوف الكردية أنها هناك رغبة تركية في التوسّع بعملياتها العسكرية على كامل المناطق الكردية الحدودية المتاخمة لتركيا وأن تركيا تسعى لاحتلال تلك المناطق ومناطق داخل إقليم كردستان العراق، وهو ما يعني عدم يقين الكرد بأن العملية ستكون محدودة إنما ستكون مقدّمة لعملية مفتوحة ومستمرة لا تتوقّف عند حدود منطقة محددة.

خاتمة

تأييد مجلس الأمن القومي التركي لقرار الرئيس التركي أردوغان في البدء بعملية عسكرية خامسة في سوريا، وعدم وجود جبهة تعادي التدخل العسكري، تشكل ظروفاً مثالية على المستوى الداخلي للمضي في مسار الحرب، فيما الانقسام الإقليمي والدولي يصعّب من القرار التركي وقد يجعل من العملية مجرّد عملية موضعية، وقد تُجابه من الأطراف التي لا تريد لتركيا المزيد من التوسّع وتعقيد المشهد السوري، ذلك أن روسيا لن توافق على عملية عسكرية دون الوصول إلى مساومات وتسويات مع أنقرة، سواء على المستوى السوري، أو على مستوى الأزمة الأوكرانية.

في حين تبدو واشنطن، حتى اللحظة، غير راضية عن مضيّ أنقرة في مثل هكذا سيناريو لأنه يضعف موقفها في سوريا وأنه سيفضي إلى تصعيد متبادل مع الأتراك، فيما تبدي قوات سوريا الديمقراطية استعداداً لمجابهة تركيا وفصائل المعارضة المسلّحة، وقد يكون باستطاعتها الاستفادة من التناقض الإقليمي والدولي وعدم نيل تركيا “الضوء الأخضر”، الأمر الذي قد يكلّف أنقرة عسكرياً، ذلك أن احتمال إقدام قسد على  تبديل تحالفاتها مع الأطراف التي لا تريد لتركيا التقدّم في الأراضي السورية هو احتمال وارد.

في المحصلة للحكومة التركية مصلحة في العملية العسكرية المتوقّعة، بالنظر إلى تدنيّ شعبيتها والأوضاع الاقتصادية المترديّة، وبالتالي قد يشكل أي “نصر” خارجي ورقة مهمة للتحالف الحكومي للذهاب إلى الانتخابات التشريعية والبرلمانية 2023 بوضع أفضل مما هو عليه الآن، لكن قد يتحوّل التدخل التركي دون موافقة القوى الكبرى، أمريكا وروسيا، أو بالتفاهم مع إيران إلى مغامرة غير محسوبة العواقب.

(1)
(2)
(3)
(4)
(5)
(6)
(7)
(8)
(9)
(10)
(11)
(12)
(13)
قائمة بالمصادر المستخدمة في المادة