ذات صلة

هل تلمّع تصرفات الجولاني الأخيرة تجاه المسيحيين من صورته؟

يرى المراقبون أن متزعم “هيئة تحرير الشام”، أبو محمد الجولاني، يسعى إلى تجميل صورة تنظيمه على ما يشكّله من مصدر قلق للمجتمع الدولي، ولأجل هذه المسألة وكجزء من سياسة التظاهر برعاية الأقليات الدينية، المسيحيين والدروز، في مناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام” زار أبو محمد الجولاني، في 20 تموز/يوليو الفائت، قرى اليعقوبية والقنيّة والجديدة وهي قرى تقطنها أقلية مسيحية في ريف إدلب الغربي، وتحدث مع بعض سكانها عن أحوال القرى “واعدا إياهم بتحسين الواقع المعيشي فيها”(1).

ويسعى الجولاني إلى خطب ودّ الأطراف الدولية من خلال مسارين، الأوّل توجيه الضربات للجهاديين المتشددين، كالحزب الإسلامي التركستاني، وإبداء شيء من المرونة تجاه من تبقّى من مسيحيي إدلب وكذلك الأقلية الدرزية، ولعل مسألة طرد مقاتلي التركستاني من “الكنيسة الأرمنية” وإعادة ترميمها، والسماح بإقامة احتفال فيها بمناسبة عيد “القدّيسة آنا” جرى تحت حراسة متشددة من قبل “جهاز الأمن العام” التابع للهيئة، الأمر الذي يجده مراقبون بأنه يعبّر عن تطلّعات الجولاني التي قد تساهم في تلميع صورته.

لكن المسار البراغماتيّ الذي يعتمده الجولاني لن يمرّ دون معوّقات داخلية؛ فعلى خلفية إعادة افتتاح كنيسة اليعقوبية بريف إدلب الغربي، وجّه جهاديون متشددون انتقادات لاذعة للجولاني و”هيئة تحرير الشام”، الأمر الذي حدا بالهيئة إلى اللجوء لتبريرموقفها ، ولأجل ذلك أصدرت إدارة منطقة جسر الشغور بياناً توضيحياً (2) في الثالث من أيلول الجاري جاء فيه “إن عمر الكنيسة مئات السنين، وقد أغلقت خلال تواجد النظام المجرم بالمنطقة عام 2012، ثم نزح أهالي تلك المناطق عن قراهم وبلداتهم نتيجة قصف ميليشيات النظام.”، ويعكس إصدار إدارة جسر الشغور للبيان عوضاً عن الهيئة، رغبة الهيئة في تجنب الخوض في نقاشات تطاول “منهج” الهئية والجولاني البراغماتي والتي بدأت ترتسم ملامحه عبر التقرّب من ما تبقّى من أقليات دينية، وعبر التركيز على المظهر الخارجي لمتزعم الهيئة كارتداء البدل واللقاء بالمدنيين والتجوّل في الأرياف والأسواق.

ورغم أن البيان تحدّث عن “أن سكان هذه البلدات جزء من المجتمع لهم حقوقهم من العيش في بيوتهم ويمارسون أعمالهم وأنشطتهم منذ بداية الثورة وينعمون بالأمن.” إلّا أن إحصائيات محلية غير رسمية قدّرت عددهم بنحو عشرة آلاف مسيحي قبل عام 2011، كما أن أعداد المسيحيين بدأت بالانخفاض في ريف إدلب نهاية 2012 ورحل معظم قاطني مدينة إدلب عام 2015 عقب سيطرة المعارضة المتمثلة ذلك الحين بجيش الفتح، الذي يضم عدة فصائل من أبرزها جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام لاحقاً)، على المدينة(3)، ذلك أن وأن المتبّقي من الرقم التقريبي هو زهاء 200 شخص في عموم محافظة إدلب.

تورّطت جبهة النصرة في عملية التضييق على المسيحيين خاصة خلال الفترة الممتدة منذ عام 2014 حتى مطلع 2017 حين تشكلت هيئة تحرير الشام بعد اندماج جبهة فتح الشام (جبهة النصرة بعد فك ارتباطها بتنظيم القاعدة) وفصائل أخرى، وفتحت تحرير الشام ما وصفه البعض بالصفحة الجديدة مع المسيحيين في إدلب(4). بيد أن الصفحة الجديدة التي اشتغلت عليها الهيئة كانت مشوبة بالانتهاكات فقد أفردت منظّمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة تقريراً (5) وأشارت إلى مصادرة مئات المنازل والمحال التجّارية في إدلب المدينة والتي تعود ملكيتها لعوائل مسيحية، وذلك خلال الفترة الواقعة اعتباراً من أواخر العام 2018 وحتى منتصف شهر تشرين الأول/أكتوبر 2019، حيث استولت هيئة تحرير الشام على ما لا يقلّ عن 550 منزل ومحل تجاري تعود ملكيتها لعوائل مسيحية، وذلك بحجّة عدم تواجدهم في المدينة. الأمر الذي عنى صعوبة تخلّي الهيئة عن سلوكها العام تجاه الأقليات الدينية الذي دمغ سلوك جبهة النصرة.

وفي مقابل العسف والانتهاكات التي طاولت المسيحيين، يحاول الجولاني إظهار نفسه قادراً على تصويب أخطاء تنظيمه تجاه المسيحيين، ففي 19 تموز / يوليو، صورة لقاء جمع الجولاني ومجموعة من المسيحيين من قرى القنية واليعقوبية والجديدة المسيحية بريف جسر الشغور شمال غربي إدلب، فيما أشارت المصادر إلى أن الجولاني وافق على تشكيل لجنة لمراجعة مثل هذه الطلبات وإعادة المسيحيين لأراضيهم وبساتينهم ومحلاتهم التجارية (6)، ولعل إعادة أملاك المسيحيين يدخل في ذات الاتجاه الذي يسعى إليه الجولاني وهو أن يظهر كزعيم لكل المقيمين في مناطق سيطرته رغم أن عدد المسيحيين تضائل ولم يبقَ منهم العدد الذي يستطيع الجولاني أن يتخذهم كجزء من دعايته الرامية إلى تصوير إدارته بأنها معتدلة.

ولا تكاد التصرفات الدعائية للجولاني تقتصر على المسيحيين وحسب، فقد سبق أن حاول متزعم الهيئة إظهار نفسه قريباً من الدروز الذين نكّلت جبهة النصرة بهم في وقت سابق، ففي 9 حزيران الماضي دشن الجولاني مشروع بئر لتزويد عدة قرى في منطقة جبل السماق بريف إدلب الشمالي بالمياه، وهي منطقة ذات أغلبية درزية. وخلال زيارته برّأ الجولاني نفسه وجماعته من أي مسؤولية عن اعتداءات ومضايقات سابقة تعرض لها سكان المنطقة، في إشارة إلى المجزرة التي وقعت على يد عناصر جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام سابقاً) في قرية قلب لوز في جبل السماق في 10 حزيران/يونيو 2015، وقتل فيها 20 درزياً.

من الصعب التوقّع إن كانت ستنجح محاولات الجولاني تجميل صورة إدارته وهيئة تحرير الشام، رغم تصرّفاته الأخيرة تجاه الأقليات الدينية، ففي شباط/فبراير من العام الماضي أجرى الجولاني  لقاءً مع الصحافي الأميركي مارتن سميث في إدلب، وقد كان يرتدي بدلة رسمية آنذاك، لترد عليه في اليوم التالي صفحة “المكافآت من أجل العدالة” التابعة لوزارة الخارجية الأميركية تعليقاً ساخراً تقول فيه: “مرحباً أيها الجولاني الوسيم، يا لها من بدلة جميلة. يمكنك تغيير ملابسك، لكنك ستكون دائماً إرهابياً. لا تنس مكافأة الـ10 ملايين دولار”. وهو ما عنى وقتها أن تلميع صورة الجولاني ومحاولات إظهاره كمعارض للنظام السوري، لا كجهادي ينحدر من تنظيم القاعدة، عبر اللقاءات مع الإعلام الغربي وارتداء الثياب الرسمية باءت بالفشل، لذلك فإن ثمة ما يمنع الجولاني من تحقيق اختراق عملي في هذه الأثناء أيضاً، فيما خص تلميع صورته إعلامياً، رغم تمسّحه بالأقليات.

(1)
(2)
(3)
(4)
(5)
(6)
قائمة بالمصادر المستخدمة في المادة