في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، أدى السقوط المفاجئ لنظام بشار الأسد وصعود هيئة تحرير الشام، التي أصبحت الآن تقود الحكومة السورية المؤقتة، إلى تغيير كبير في توازن القوى الإقليمي. ومن الملاحظ أن الحكومة المؤقتة، تحت قيادة هيئة تحرير الشام، بدأت تبذل جهودًا جادة لتعزيز سلطتها وشرعيتها، بالإضافة إلى السعي لإعادة بناء سوريا بعد 14 عامًا من الحرب الأهلية ونصف قرن من حكم آل الأسد. في إطار هذه المساعي، بدأت الحكومة المؤقتة في تنفيذ مبادرات دبلوماسية مع القوى الإقليمية والدولية.
ورغم الترحيب من قبل دمشق بالجميع، بمن فيهم روسيا، لزيارة المدينة، إلا أن هناك صعوبة في فتح المجال للانتقال أمام الآخرين، ما قد يؤدي إلى إثارة الاستياء ويحفز تدخلاً إقليميًا قد يكون مدمرًا. وعلى الرغم من أن نجاح هذه السياسة لا يزال غير مؤكد، فإن نهج هيئة تحرير الشام في التعامل مع التناقضات الإقليمية يستحق الوقوف عنده.
انعطافة أنقرة (الحذرة) نحو دمشق:
أولاً، سعت الحكومة التي تقودها هيئة تحرير الشام إلى إيجاد توازن حساس مع الدولة الإقليمية الأكثر نفوذاً في سوريا الجديدة، تركيا. بالنسبة لتركيا، توفر سوريا الجديدة، التي تفتقر إلى النفوذ الروسي والإيراني، ميزة استراتيجية. ومع ذلك، فإن أنقرة تتبنى نهجًا حذرًا تجاه الحكومة المؤقتة التي تقودها هيئة تحرير الشام، مع التركيز بشكل خاص على القضية الكردية. تركيا تعتبر أن قوات سوريا الديمقراطية بقيادة وحدات حماية الشعب تشكل تهديدًا وجوديًا لها بسبب علاقتها المزعومة مع حزب العمال الكردستاني. بناءً عليه، تركز سياسة أنقرة في سوريا على ضمان استقرار الدولة السورية مع حكومة مركزية وجيش موحد، بالإضافة إلى حماية الأراضي السورية.
في ديسمبر/كانون الأول 2024، تم تنظيم اجتماع بالغ الأهمية بين الجنرال مظلوم عبدي، قائد قوات سوريا الديمقراطية، وأحمد الشرع، زعيم هيئة تحرير الشام، حيث كان النقاش يدور حول التكامل العسكري. طالبت هيئة تحرير الشام بضم قوات سوريا الديمقراطية تحت مظلة الجيش السوري المستقبلي. بينما كان عبدي يوافق على رؤية سوريا الموحدة، شدد على أهمية النموذج الفريد لقوات سوريا الديمقراطية في الحكم الذاتي، ودعا إلى اللامركزية والحفاظ على هوية هذه القوات داخل وزارة الدفاع السورية. من جهته، رفض وزير الدفاع المؤقت مرهف أبو قصرة، الذي يهدف إلى توحيد الفصائل المناهضة للأسد بحلول مارس/آذار 2025، مقترحات التكامل، وأصر على الهيكلية الهرمية الشاملة.
من بين أبرز العوائق أمام دمج قوات سوريا الديمقراطية في هيكل وطني هو أن هذه القوات لديها سلسلة قيادة خاصة بها، ولا يزال كوادر حزب العمال الكردستاني الناشطين يشكلون جزءًا منها. وكان الحزب قد أعلن سابقًا أنه سيتوقف عن العمل في سوريا إذا بقيت قوات سوريا الديمقراطية في موقع القيادة.
وعلى نطاق أوسع، لم يتم طرح عرض حقيقي للإدارة الذاتية الكردية حتى الآن، باستثناء بعض المقترحات المحدودة التي تتعلق بالحقوق الثقافية واللغوية. ومن خلال العوامل التركية المؤثرة في المعادلة، يُتوقع أن تتصاعد التوترات بين قوات سوريا الديمقراطية وهيئة تحرير الشام في الأشهر المقبلة. تسعى أنقرة أيضًا إلى ضمان بقاء حاشيتها من الجيش الوطني السوري، الذي تموله وتسيطر عليه منذ عام 2017، وتستخدمه لموازنة قوات سوريا الديمقراطية وتشكيل هيكل سياسي جديد في سوريا، بالإضافة إلى الحفاظ على منطقة عازلة تمنع قوات سوريا الديمقراطية من توسيع نفوذها في شمال البلاد.
محاولات أنقرة الحالية للانخراط في عملية سلام مع حزب العمال الكردستاني قد تساعد تركيا في قبول فكرة الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، وتسهيل محادثات التفاوض بين هيئة تحرير الشام وقوات سوريا الديمقراطية. في الوقت ذاته، تستضيف تركيا نحو أربعة ملايين لاجئ سوري، وتسعى لتسهيل عودتهم وإعادة توطينهم في المنطقة العازلة، وهو ما يثير قلق الأكراد الذين يرون في هذه الخطة محاولة لتغيير ديموغرافي يشبه مشروع الحزام العربي الذي نفذته الجمهورية العربية المتحدة في ستينيات القرن العشرين.
بالإضافة إلى المخاوف الأمنية، تسعى أنقرة للاستفادة من قوتها في إدلب ومناطق أخرى لتعزيز مصالحها الاستراتيجية في البحر الأبيض المتوسط. أي اتفاق محتمل مع سوريا قد يساعد في حل قضايا الحدود الساحلية، ويعزز جهود تركيا الإقليمية لمواجهة مطالبات الإدارة القبرصية اليونانية في شرق البحر الأبيض المتوسط، وربما يدفع سوريا للاعتراف بجمهورية شمال قبرص التركية.
محور المقاومة الضعيف:
إيران قد تكون الخاسر الأكبر في سوريا الجديدة. فقد أسس حافظ الأسد تحالفًا استراتيجيًا مع طهران في السبعينيات لتوازن علاقات سوريا مع العراق وإسرائيل، واستفادت إيران من هذا التحالف لتوطيد وجودها في لبنان وتهديد إسرائيل بشكل مباشر. استمر هذا التحالف حتى سقوط نظام بشار الأسد.
من هنا، يشكل سقوط بشار الأسد ضربة استراتيجية لإيران، حيث فقدت طهران إمكانية الوصول إلى الممر البري الذي يربطها بلبنان، ما يهدد استراتيجيتها الإقليمية بأكملها. ومع غياب موطئ قدم لها في سوريا، أصبح موقف إيران في المنطقة هشًا. بينما لا يزال تأثير التطورات الجديدة في سوريا على سياسة إيران في اليمن (ودعمها للحوثيين) غير واضح تمامًا، من المؤكد أن محور المقاومة قد تراجع بشكل كبير.
أما العلاقات المستقبلية بين سوريا وإسرائيل، فهي تظل محورًا حاسمًا للفوضى الإقليمية. بالنسبة لتل أبيب، يعد سقوط الأسد وتفكيك قدرات حزب الله العسكرية وبنيته القيادية انتصارًا استراتيجيًا ضد إيران ووكلائها في المنطقة. وبينما لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الحكومة المؤقتة بقيادة هيئة تحرير الشام ستشكل تهديدًا لإسرائيل في مرتفعات الجولان المحتلة، فإن رد إسرائيل على استيلاء هيئة تحرير الشام على السلطة كان عدوانيًا بشكل كبير. بعد سقوط الأسد، شنت إسرائيل حملة عسكرية جوية واسعة، حيث يُقال إنها نفذت أكثر من 800 غارة جوية على أنحاء سوريا، استهدفت بشكل رئيسي القدرات العسكرية السورية مثل مستودعات الأسلحة، أنظمة الدفاع الجوي، المطارات العسكرية، الأصول البحرية، مواقع الأسلحة الكيميائية، ومرافق الاستخبارات. كما أقدمت قوات الدفاع الإسرائيلية على احتلال مواقع استراتيجية في جبل الشيخ بهدف إنشاء منطقة عازلة مع سوريا.
مشاركة الرياض ومخاوف أبو ظبي
تقدّم السياسة الخارجية للحكومة المؤقتة بقيادة هيئة تحرير الشام تجاه الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وخاصة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، صورة معقدة ودقيقة. لقد اتخذت الحكومة المؤقتة نهجًا حذرًا في تعاملها مع هاتين الدولتين، مدركة لحساسية الوضع في ظل تأثير الانتفاضات العربية وجماعة الإخوان المسلمين على مواقف هذه الممالك. لذلك، كان من الواضح منذ البداية أن سوريا ما بعد الأسد ليست استمرارًا لروح الربيع العربي.
بعد سقوط الأسد، تجد الرياض وأبو ظبي نفسيهما في وضع دقيق، خصوصًا بعد تطبيع الإمارات العربية المتحدة لعلاقاتها مع دمشق في 2018 واستعادة سوريا لمقعدها في جامعة الدول العربية في 2023، وهي خطوة وصفها البعض بأنها “تحول عميق في النظام الإقليمي العربي”. فجأة، تجد الدولتان الخليجيتان، اللتان كانتا قد طبعّتا علاقاتهما مع نظام الأسد، نفسيهما أمام واقع جديد، حيث أصبحت هيئة تحرير الشام على رأس السلطة.
بالنسبة للسعودية، التي ترى في سوريا الجديدة فرصة استراتيجية بعيدًا عن النفوذ الإيراني، فقد رحبت بحذر بالحكومة المؤقتة، مع مزيج من الانتهازية والحذر. كانت الرياض من أوائل الدول التي استضافت وزير الخارجية السوري الجديد، أسعد الشيباني، في زيارة رسمية. من جانبها، أعرب أحمد الشرع، زعيم هيئة تحرير الشام، عن تفاؤله بشأن الدور المستقبلي للسعودية في سوريا، مؤكدًا أن سوريا الجديدة لا تشكل تهديدًا لدول الخليج وأنها منفتحة على الاستثمار.
إن قرار منح هيئة تحرير الشام مقابلة حصرية لقناة “العربية” المملوكة للسعودية – وهي قناة تقليديًا أكثر انتقادًا للإسلاميين مقارنةً بقناة الجزيرة القطرية – يشير إلى تحول استراتيجي مهم في نهج الهيئة. من الواضح أن الرياض تسعى إلى تهيئة الظروف الإقليمية والمحلية لتنفيذ أهدافها لعام 2030، ومن المتوقع أن يكون تورطها في سوريا جزءًا من رؤيتها الإقليمية الأوسع. كما يُتوقع أن تستثمر السعودية في مشاريع إعادة الإعمار في سوريا بقيمة مليارات الدولارات، وتسعى أيضًا للعمل مع الحكومة السورية لوقف تهريب مخدر الكبتاغون إلى الأراضي السعودية.
أما الإمارات العربية المتحدة، فقد كانت أكثر تحفظًا في تعاملها مع دمشق مقارنةً بالسعودية. بينما ترى أبوظبي إمكانات اقتصادية كبيرة في سوريا ما بعد الأسد، فإنها تظل حذرة في التعامل مع الحكومة المؤقتة بقيادة هيئة تحرير الشام بسبب طابعها الإسلامي، رغم بعض التغييرات في قيادة الهيئة. ينبع هذا التحفظ من العلاقات المتوترة بين الإمارات وفرع جماعة الإخوان المسلمين في الدولة، “حزب الإصلاح”، الذي سعى في الماضي لتوسيع نفوذه داخل مؤسسات الدولة، بما في ذلك محاولات للوصول إلى السلطة السياسية.وبالنسبة للإمارات، فإن العلاقة مع القيادة السورية الجديدة قد تُعتبر تشريعًا للحكم الإسلامي، وهو ما يعزز الحذر في التعامل مع الحكومة المؤقتة. في هذا السياق، أعرب مستشار الرئيس الإماراتي، أنور قرقاش، عن قلقه بشأن علاقات هيئة تحرير الشام بالجماعات الإسلامية، رغم أنه أشار إلى بعض البراغماتية في تصريحات الهيئة حول وحدة الأراضي السورية.
العراق المجاور:
كما هو الحال بالنسبة للعراق، كانت علاقات سوريا مع بغداد دائمًا متقلبة، حيث شهدت فترات من التعاون والتنافس. غير أن الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قد أثرت بشكل كبير على هذه الديناميكيات. ففي عام 2014، تعاونت الدولتان مع إيران وروسيا، وفي وقت لاحق مع حزب الله اللبناني، لإنشاء غرفة عمليات مشتركة لمحاربة داعش. إلى جانب ذلك، تم نشر قوات الحشد الشعبي في سوريا لحماية الأضرحة الدينية، وتُظهر الأدلة أن هذه القوات قاتلت إلى جانب قوات الأسد ضد جماعات المعارضة السورية.
وفي ظل هذا السياق، يعكس تأخر العراق في إرسال وفد إلى دمشق تردده في التعامل مع الحكومة المؤقتة بقيادة هيئة تحرير الشام، خاصة في ضوء علاقات أحمد الشرع السابقة بالأنشطة الإرهابية داخل العراق وارتباطه المباشر مع زعيم داعش السابق، أبو بكر البغدادي. وعليه، فإن العراق اختار إرسال رئيس جهاز الاستخبارات، حامد الشاطري، للتعامل مع الحكومة السورية الجديدة، ما يسلط الضوء على أن بغداد تعتبر سياستها تجاه سوريا في المقام الأول مسألة أمنية. في هذا الصدد، ناقش الجانبان القضايا الأمنية المتبادلة، مع التركيز بشكل خاص على السيطرة على الحدود المشتركة بين البلدين التي تمتد على طول 600 كيلومتر، وذلك لمنع تسلل الجهاديين والحد من الهجمات مثل تلك التي شهدها العراق بعد عام 2003.
عدم اليقين في سياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا:
تُعد الولايات المتحدة من الفاعلين الرئيسيين في التعامل مع التناقضات الإقليمية في سوريا. ففي ظل إدارة ترامب الجديدة، تم تجميد المساعدات الأمريكية في العديد من مناطق العالم، مما يعكس حالة من عدم اليقين بشأن التزام الإدارة الأمريكية ببقاء قواتها في سوريا. وقد أدى تعليق المساعدات إلى تعطيل الأمن وإدارة معسكرات الاحتجاز الرئيسية في شمال سوريا، مما أثار مخاوف كبيرة بشأن احتمال هروب نحو 9000 مقاتل من داعش من مخيمات الهول وروج.
في هذا السياق، قال قائد القيادة المركزية الأمريكية، الجنرال مايكل كوريلا، إنه “لم يتمكن بعد من التوصل إلى أي شيء ملموس، ولا يعرف ما يريده الرئيس ترامب”، مشيرًا إلى أنه يتوقع أن “ترامب سيقول بلا شك من يستفيد من كل هذا – يجب أن يدفعوا”. هذا البيان يعكس الضبابية في السياسة الأمريكية تجاه سوريا، والتحديات التي تواجهها الإدارة الأمريكية في تحديد ملامح سياستها في المنطقة.
مع استمرار تطور الوضع على الأرض، من المتوقع أن تركز السياسة الأمريكية على تحقيق التوازن بين الأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب، مع الأخذ في الاعتبار التحالفات والمصالح الإقليمية المتعددة. هذا التوازن سيكون ضروريًا لتفادي المزيد من التوترات في المنطقة وضمان استقرار الأوضاع في سوريا، خاصة في ظل التحديات المتزايدة مثل النشاطات الإرهابية والنزاعات المستمرة.
سوريا عند مفترق طرق:
في ظل هذه الديناميكيات المعقدة من السياسات الأمنية والتنافس الإقليمي، تظل سوريا تلعب دورًا محوريًا في الجغرافيا السياسية للمنطقة. ومع ذلك، فإن البلاد تقف اليوم عند مفترق طرق حاسم. بالإضافة إلى تحدي صياغة دستور جديد للجمهورية – وهو من المهام الأكثر تعقيدًا – تواجه الحكومة المؤقتة قضايا معقدة تتعلق بملء الفراغ في السلطة، وتنظيم عملية الحوكمة، وإدارة العلاقات مع الفصائل المتنافسة، وإنهاء العزلة الدولية والعقوبات، فضلاً عن الحاجة إلى إعادة بناء الاقتصاد والبنية التحتية.
تتمثل الأولويات الحالية في دمج قوات سوريا الديمقراطية والجماعات المسلحة المختلفة ضمن هيئة عسكرية موحدة، مع التوازن بين المصالح المتضاربة للقوى الإقليمية، وعلى رأسها تركيا. كما تواجه الحكومة المؤقتة تحديات إضافية تتعلق بالإصلاح القضائي، والقلق بشأن الحكم الشمولي، وحقوق الإنسان، بالإضافة إلى قدرتها على توفير الخدمات الأساسية للسوريين.
تحقيق هذه الأهداف لن يكون سهلًا، فكل مهمة تتطلب تنازلات وحلول متوازنة بين الأطراف المختلفة. وهذا يعكس أيضًا أن أي جهة فاعلة واحدة لا يمكنها تحقيق هذه المهام بمفردها. بل إن المجتمع الدولي يقع عليه عبء أخلاقي يتمثل في عدم ترك سوريا وراءه: يجب أن يدعم السوريين في إيجاد حلول محلية لمشاكلهم، مع تقديم الدعم والتوجيه دون فرض حلول خارجية قد تفاقم الأزمة.
أمجد رشيد
رابط البحث
https://www.iai.it/en/pubblicazioni/c05/new-syria-and-regional-balance-power
ترجمة يوسف سامي مصري.