مرَّ شهران منذ انهيار حكم بشار الأسد في دمشق، ومنذ ذلك الحين بدأت سوريا تتراجع تدريجيًا من عناوين الأخبار. إن قلة التغطية الإعلامية تتيح إمكانية بناء استنتاجات أولية وتوقعات حول التطورات المحتملة في سوريا والمنطقة. الاستنتاج الأكثر أهمية هو أن سقوط النظام القديم لم ينهي الأزمة السورية، بل تحولها إلى مرحلة جديدة بصيغة مختلفة. وبذلك، بدأت مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة، سواء المحلية أو الخارجية، بإعادة تقييم أدوارها وأهدافها في البيئة الجديدة التي نشأت بعد ديسمبر 2024.
إحدى الجهات الفاعلة الرئيسة في هذا السياق هي تركيا. للوهلة الأولى، يبدو أن أنقرة هي الفائز الأكبر في تغيير النظام. التصريحات الرسمية التركية والنشاطات الإعلامية، إضافة إلى التحليلات المنتشرة على وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي في الغرب والشرق الأوسط، تعطي انطباعًا بأن تركيا كانت العقل المدبر وراء سقوط الأسد. بل إن بعض التحليلات تذهب إلى حد تصوير تركيا كأنها تسيطر بالكامل على الحكومة السورية الجديدة، أو على الأقل تملي إرادتها عليها.
لكن هذا التصور غير دقيق. في الواقع، تركيا الآن أمام فرصة كبيرة في سوريا، ولكن وراء هذه الفرصة تكمن مجموعة من التحديات والمخاطر المعقدة والخطيرة. فبالرغم من أن أنقرة قد تكون استفادت من التطورات الأخيرة، إلا أن وجودها في سوريا يظل محفوفًا بالمخاطر، خصوصًا في ظل التنافس الإقليمي والأوضاع الداخلية السورية المعقدة التي لا يمكن التنبؤ بها بسهولة.
فرص وتحدّيات تركيا:
منذ بداية الأزمة السورية في عام 2011، التي سرعان ما تحوّلت إلى حرب أهلية وأدت إلى تقسيم فعلي للبلاد، واجهت تركيا سلسلة من التحديات المتشابكة والمعقدة. كان من أبرز هذه التحديات محاولة منع الصراع من الانتقال إلى أراضيها، إدارة تدفق اللاجئين السوريين إلى تركيا، وكذلك التعامل مع الجماعات شبه العسكرية الكردية على حدودها. يُقدّر عدد اللاجئين السوريين في تركيا بين 3 إلى 4 ملايين شخص، مما أدى إلى توترات اجتماعية وأعباء سياسية كبيرة على الحكومة التركية. إن عودة هؤلاء اللاجئين إلى سوريا بعد سقوط نظام الأسد قد تساهم في تخفيف العبء الاجتماعي والاقتصادي على تركيا.
من ناحية أخرى، فإن إعادة إعمار سوريا بعد الحرب تتطلب جهودًا ضخمة، بما في ذلك بناء المساكن، تطوير النقل، وإعادة بناء البنية التحتية. وهذا يفتح أمام تركيا العديد من الفرص الاقتصادية. التعاون التركي القطري في مجال إعادة إعمار سوريا قد يسهم في لعب دور محوري مشابه لما كان عليه “خطة مارشال” بعد الحرب العالمية الثانية، حيث قد يتم تنفيذ مشاريع تحت إشراف الأمم المتحدة. في المقابل، قد تأتي المساعدات الغربية مع شروط ديمقراطية حقوقية، مما يجعل تركيا شريكًا أكثر قبولًا لدعوة المساعدة من النظام السوري الجديد، خاصة في ظل تركيز المساعدات التركية على المصالح الاقتصادية.
وفي سياق الجيولوجية والاقتصاد، يُعتقد أن النظام السوري قد يعطي “الضوء الأخضر” لبناء خط أنابيب الغاز بين قطر وأوروبا عبر الأراضي التركية. كذلك، قد يتم التوصل إلى اتفاق حول ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وسوريا، مما سيسمح لأنقرة بتوسيع مطالبها على الجرف القاري في البحر الأبيض المتوسط الغني بالغاز الطبيعي.
لكن هذه الأفكار لا تخلو من شكوك. فمشروع خط الأنابيب الذي يمر عبر الأراضي السعودية قد يواجه معارضة كبيرة من الرياض، التي من غير المرجح أن توافق على مشاريع قد تعزز مكانة منافسيها الإقليميين مثل تركيا وقطر. كما أن ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وسوريا لا يزال بعيد المنال.
أما فيما يتعلق بالعلاقات الاقتصادية بين أنقرة ودمشق، فقد واجهت أزمة بعد فرض سوريا رسوماً جمركية تصل إلى 300% على السلع التركية، وهي خطوة تهدف إلى حماية الصناعات المحلية. رغم أن الرسوم تم تخفيضها بعد فترة قصيرة، فإن قضايا حماية الإنتاج المحلي وتوليد الإيرادات ما زالت تُشكل تحديًا قائمًا.
وبالنسبة للأوضاع الداخلية في سوريا، فإن أحد المهام الرئيسية للحكومة السورية الجديدة هو توحيد الفصائل المتمردة المسلحة في جيش نظامي موحد. تركيا قدمت مساعدات في هذا الصدد، لكن المشكلة تكمن في رفض العديد من الجماعات المسلحة المضي في نزع السلاح والتسريح. كذلك، يشكل الجهاديون الإسلاميون والمتطرفون تهديدًا ليس فقط لاستقرار سوريا، ولكن أيضًا لتركيا، خاصة في حال سيطرة هذه الجماعات على الحكومة السورية المستقبلية.
الهيمنة المحتملة لهذه العناصر المتطرفة على الحكومة السورية ستكون تهديدًا استراتيجيًا لجميع الأطراف الإقليمية، وبشكل خاص لتركيا، نظرًا لقربها المباشر من سوريا والأبعاد الأمنية التي تترتب على ذلك.
المعضلة الكردية:
يمثل العامل الكردي أحد أكبر التحديات التي تواجه تركيا في سياق الأزمة السورية، حيث تعتبر أنقرة أن أي شكل من أشكال الحكم الذاتي الكردي أو السيطرة الكردية على مناطق في سوريا يشكل تهديدًا للأمن القومي التركي. ذلك لأن القلق التركي يرتكز على أن هذا التطور قد يؤدي إلى تعزيز نشاطات حزب العمال الكردستاني (PKK) الموصوف بالإرهاب في تركيا، خاصة بعد ارتباط هذا الحزب بأيديولوجيات مشابهة لتلك التي يتبناها حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) في سوريا، والذي يُعتبر أحد الأذرع العسكرية لحزب العمال الكردستاني.
من أجل مواجهة هذا التهديد، تدخل الجيش التركي مرات عديدة إلى الأراضي السورية منذ بداية الحرب الأهلية في 2011، وأقام حزامًا أمنيًا على طول الحدود المشتركة بين البلدين. كما دعم الجيش السوري الحر، وهو تحالف من الفصائل المعارضة للأسد، في محاربة وحدات حماية الشعب (YPG) التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي. ولكن على الرغم من الدعم التركي، لم يحقق الجيش السوري الحر تقدمًا ملموسًا ضد وحدات حماية الشعب الكردية، التي لا تزال تسيطر على أراضٍ مهمة، بما في ذلك سد تشرين الاستراتيجي على نهر الفرات.
في سياق هذه المعركة، بدأ الأكراد في شمال سوريا استخدام طائرات مسيرة وصواريخ متطورة لمواجهة الطائرات التركية بدون طيار، وهو ما شكّل مفاجأة لأنقرة. واتهمت بعض المصادر التركية إيران بتقديم الدعم لهذه القوات الكردية، وهو ما يعكس التنافس المستمر بين تركيا وإيران في الساحة السورية.
الآن، تواجه أنقرة خيارات صعبة. التدخل المباشر لدعم الجيش السوري الحر قد يعني الدخول في حملة عسكرية طويلة في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد، مما سيزيد من تعقيد العلاقات مع دمشق. بالإضافة إلى ذلك، فإن وجود القوات الأمريكية في المنطقة يمثل تهديدًا آخر، حيث تواصل واشنطن دعمها لقوات سوريا الديمقراطية التي تشمل وحدات حماية الشعب الكردية.
بعض التقارير تشير إلى أن تركيا قد تبحث عن بدائل أخرى، مثل محاولات التقارب مع النظام السوري بعد سقوط الأسد، حيث يمكن أن تشمل هذه البدائل إشراك زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان في عملية تسوية سياسية، رغم أن هذا الخيار ما زال قيد التأمل.
في المجمل، تستمر تركيا في اتخاذ مواقف حذرة، بينما تواصل تقديم الدعم اللوجستي والعسكري للجيش السوري الحر، وتعمل على توجيه تحذيرات للمجتمع الدولي بشأن مخاطر تفكك سوريا وما قد ينتج عنه من تداعيات على الأمن الإقليمي.
تركيا في مواجهة الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى:
في ظل تطورات سوريا الأخيرة، أصبح الوضع الإقليمي أكثر تعقيدًا، حيث تراجعت مواقف كل من روسيا وإيران في البلاد، بينما لا تزال استراتيجية الولايات المتحدة غير واضحة تحت إدارة ترامب الجديدة. في هذا السياق، بدأ التحالف غير الرسمي للدول العربية، الذي يضم مصر والأردن والمغرب والسعودية والإمارات، في استكشاف الوضع في سوريا بحذر، محاولًا بناء علاقات مع الحكومة السورية الجديدة. أحد أهداف هذا التحالف هو منع العودة المحتملة للمتطرفين إلى بلدانهم بعد أن سافر العديد منهم إلى سوريا تحت راية الجهاد في العقد الماضي.
وفي الوقت نفسه، يركز التحالف العربي أيضًا على استقرار لبنان المجاور، ويعمل على تطهيره من النفوذ الإيراني، نظرًا لأن العديد من الدول العربية تعتبر لبنان وسوريا بمثابة “مساحة استراتيجية واحدة”. من جهة أخرى، يبدو أن تحالف الدول العربية يستهدف بشكل غير مباشر منع تركيا وحليفتها قطر من توسيع نفوذهما في سوريا.
أما بالنسبة لإسرائيل، فإن انهيار نظام الأسد أعاد لها مصداقيتها الردعية، وهو أمر كانت قد فقدته في وقت سابق نتيجة الهجوم الذي شنته حماس على إسرائيل في أكتوبر 2023. لكن الرد الإسرائيلي العنيف على هذا الهجوم أثار استياء تركيا، مما أدى إلى تدهور العلاقات بين البلدين. مع تغير موازين القوى في سوريا بعد نهاية حكم الأسد، بدأ يظهر احتمال أن تتصاعد التوترات بين تركيا وإسرائيل إلى مستوى صراع مباشر في سوريا. تشير التقارير إلى أن هذا الاحتمال قد يصبح واقعًا إذا استمرت الانتقادات التركية لإسرائيل، وهو ما يعكس الوضع الجيوسياسي المتقلب في المنطقة.
الملخّص
نظراً للأوضاع المتقلبة في سوريا، فإنه من السابق لأوانه اعتبار تركيا الفائز الوحيد أو الفائز الأوّل في التغيير الحاصل. على الرغم من الفرص التي قد تفتح أمام أنقرة، لا تزال التحديات كبيرة أمامها قبل أن تتمكن من الاستفادة الفعلية من الانهيار السريع للنظام السوري. على الرغم من التعاون الوثيق بين الحكومة السورية الجديدة وتركيا في هذه المرحلة، من المتوقع أن تسعى دمشق إلى تحقيق توازن بين هذه العلاقة وبين تحالفاتها الدولية الأخرى، لاسيما مع الدول العربية.
على مدار الحرب الأهلية، استفادت قوى المعارضة من الدعم التركي المقدم بشكل اقتصادي وإنساني وعسكري، وهو الدعم الذي لعب دوراً في إضعاف النظام السوري المدعوم من إيران وروسيا. ولكن مع سقوط الأسد، تغيّرت المعادلة السياسية، مما يضع تركيا أمام تحديات جديدة في التعامل مع الحكومة السورية.
من الجدير بالذكر أن التاريخ يشير إلى أن حركات التمرّد المعادية قد تجد نفسها في وضع مختلف تمامًا في مرحلة ما بعد النظام القديم، تمامًا كما حدث بين باكستان وطالبان في التسعينات. ومع ذلك، فإن العلاقة بين تركيا والحكومة السورية الجديدة تختلف عن ذلك الارتباط، الأمر الذي قد يسهم في بناء ديناميكيات جديدة يمكن أن تفضي إلى تفاهمات مختلفة، سواء على المدى القريب أو البعيد.
جهانجير أراسلي
تاريخ البحث: 6 شباط/فبراير 2025
ترجمة يوسف سامي مصري
جهانجير أراسلي: هو زميل باحث أول في معهد التنمية والدبلوماسية (IDD) التابع لجامعة ADA ومستشار سابق للقضايا الدولية في وزارة الدفاع في أذربيجان.
رابط البحث
https://idd.az/media/2025/02/06/idd_policy_brief_-_jahangir_e_arasli-_6_february.pdf?v=1.1