وضعت التغيرات السياسية في سوريا دمشق في مركز استهداف المشاريع المعولمة التي تسعى للسيطرة على الجغرافيا العربية، من خلال استغلال عمقها الاستراتيجي وموقعها الجغرافي في معادلة توازنات القوى الإقليمية والدولية. فمن ممر داوود الخادم لمشاريع الهيمنة والاحتلال الإسرائيلي، إلى الشرق الأوسط الجديد الذي يعزز نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية، وصولًا إلى أنبوب الغاز القطري-الأوروبي الذي يوسع التأثيرات الخارجية لقطر، تجد سوريا نفسها في مفترق طرق، محاولًا إيجاد مخرج من وضعها المعقد ومستقبلها المليء بالمخاطر والعقبات.
هذه الديناميكية المعقدة تنسجم مع رغبة “إجبارية” للإدارة الحاكمة الجديدة في دمشق للاندماج في المجتمع العربي والإقليمي والدولي، والتماهي القسري مع تلك المشاريع، في محاولة لـ “غسل” سمعتها السابقة كطرف متطرف. وهذا يتيح للقوى المسيطرة على المشاريع الثلاثة فرصة للتعامل مع سوريا كـ “غنيمة”، متجاهلين نضال الشعب السوري المستمر على مدار 13 عامًا، والذي دمّره النظام الأسدي البائد، حيث سالت دماء مئات الآلاف من الشهداء، وتعرّض الملايين للتشريد والتهجير.
تهدف هذه الدراسة إلى تقديم قراءة بحثية للمشاريع الثلاثة، وتأثيراتها على المشهد السوري الجديد، في محاولة لفهم كيفية التعامل المستقبلي مع سوريا الجديدة، وما قد تحمله من تطورات دراماتيكية سيكون لها انعكاسات سياسية واقتصادية على مستقبلها. كما ستسلط الدراسة الضوء على طريقة تعاطي الإدارة الحاكمة الجديدة مع تلك المشاريع، وهل سيكون ذلك وفقًا لمرتكزات الدولة الوطنية السورية ومؤسساتها، أم وفقًا للأيديولوجية السياسية البراغماتية التي انتهجتها بعد سقوط نظام الأسد.
أولاً: مشروع ممر “داوود” وتطويق سوريا:
تُعد المطامع الإسرائيلية في الأراضي السورية جزءًا من طموحات تل أبيب التوسعية في المنطقة العربية، حيث تسعى إسرائيل إلى توسيع مساحات الأراضي الخاضعة لسيطرتها ودمجها ضمن مناطق نفوذها وتحالفاتها في آسيا وبقية دول العالم. تهدف إسرائيل إلى فرض سياسة الأمر الواقع على الدول العربية ودفعها لقبول دمجها ضمن الخريطة العربية، ولكن وفقًا لرؤيتها التي تقوم على الهيمنة وإخضاع دول الجوار. وقد عبّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن هذه الرؤية مؤخرًا بقوله: “لن نسمح لقوات هيئة تحرير الشام أو الجيش السوري الجديد بدخول الأراضي الواقعة جنوب دمشق، ويجب نزع السلاح من جنوب سوريا، في محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء”.
بتصريح نتنياهو، وضع ملامح ممر “داوود” كجزء أساسي من المطامع الإسرائيلية في الجنوب السوري، وهو ممر يمتد نحو الشمال في خارطة يتم تشكيلها حاليًا بهدف تغيير معالم الشرق الأوسط. وقد سبق حديثه عرض خريطة تفصيلية في أكتوبر 2024 على منبر الأمم المتحدة، لتشكل هذه الخريطة نقطة مفصلية تدعمها الولايات المتحدة الأمريكية بشكل كامل. ومن المتوقع أن تؤدي الظروف الإقليمية المعقدة والصراعات المستمرة بين القوى الإقليمية والدولية إلى التحرك نحو هذا الاتجاه في المنطقة.
تستند إسرائيل في طرحها لمشروع ممر “داوود” على نبوءات توراتية افتراضية تسعى لتحقيقها على الأراضي السورية، بهدف اختراق عمق الإقليم العربي المجاور لها. يمتد هذا الممر من مرتفعات الجولان حتى نهر الفرات وصولًا إلى البحر الأبيض المتوسط، مرورًا بمحافظات درعا والسويداء والرقة ودير الزور والبوكمال والتنف. ويشكل هذا الممر الرابط بين إسرائيل والفرات، مما يعزز من قدرتها على محاصرة الحدود العراقية، ويوفر لها منفذًا بريًا يخفف من عزلتها ويحسن حركة تجارتها. كما يتيح لإسرائيل إقامة مشروعات للطاقة والسياحة، ويعزز قوتها العسكرية ودورها الإقليمي، مما يشكل ضغطًا على العراق وتركيا وإيران.
تعد الأراضي السورية جزءًا محوريًا من “ممر داوود”، خاصة في منطقة الجنوب السوري (محافظات درعا والسويداء والتنف ودير الزور)، التي تعد بوابة رئيسية لهذا الممر نحو نهر الفرات في العراق. وتعتبر هذه المنطقة ذات أهمية اقتصادية كبيرة، حيث تتمتع بموارد مائية وزراعية ونفطية غنية، وهي مطمع لتل أبيب التي بدأت في تنفيذ خطوات عملية لتحقيق هذا المشروع في ديسمبر 2024، عقب سقوط النظام الأسدي، حيث قامت بالاستيلاء على المنطقة منزوعة السلاح التي تفصل بين مرتفعات الجولان السورية المحتلة والمناطق السورية الأخرى. كما شرعت إسرائيل في إنشاء ممر عبر شق طريق بطول 8 كيلومترات جنوب شرق قرية مجدل شمس، على امتداد خط “ألفا”.
لم تكتفِ إسرائيل بذلك، بل قامت بترسيخ وجودها العسكري في الجنوب السوري، حيث أنشأت 7 قواعد عسكرية تمتد من جبل الشيخ في الشمال حتى تل “قودنة” في الجنوب، بالقرب من مثلث الحدود الذي يربط سوريا بالأردن. كما أعلنت إسرائيل عن خطة لبناء 9 مواقع عسكرية أخرى، مع رفع عدد الألوية الإسرائيلية في الجنوب السوري إلى ثلاثة ألوية، مقارنة بكتيبة ونصف فقط قبل 7 أكتوبر 2023. ويأتي ذلك بعد أن توغلت إسرائيل لمسافة 25 كيلومترًا داخل الأراضي السورية من العاصمة دمشق، وتخطط للبقاء طويل الأمد في المناطق التي سيطرت عليها داخل مرتفعات الجولان. وقد أكّد وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس في زيارة له إلى الجانب السوري من جبل الشيخ على أن قواته ستبقى في سوريا إلى أجل غير مسمى.
في إطار هذه الخطط، أكّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن إسرائيل ستعمل على منع أي تهديد أو هجمات بالقرب من حدودها في جنوب غرب سوريا، قائلًا: “إذا كانت هناك اليوم أي قوة في سوريا تعتقد أن إسرائيل ستسمح لقوات معادية أخرى باستخدام سوريا كقاعدة عمليات ضدنا، فهي مخطئة كثيرًا”. ورغم هذه السياسة العدائية، لا تزال السلطات السورية الجديدة “خجولة” في مواجهة هذا التدخل الإسرائيلي، مما شكل تحديًا كبيرًا لها، خاصة أنها تعهدت ضمنيًا بعدم مواجهة إسرائيل، رغم أن ذلك لم يُعلَن صراحة من قبل أي مكون سوري، حتى الجماعات المسلحة السورية الأخرى لم تتعهد بذلك للكيان الإسرائيلي رغم صمتها تجاه أعماله الاحتلالية.
من خلال ما سبق، يمكن التأكيد على أن مشروع “ممر داوود” هو جزء من مخطط استراتيجي إسرائيلي لتوسيع هيمنتها على الجغرافيات المحيطة بها. ورغم أن إسرائيل تستغل الأوضاع الحالية في سوريا لتحقيق بعض الأهداف قصيرة المدى، فإن هذا التوجه قد يواجه مقاومة عسكرية عنيفة على المدى البعيد، خاصة من الجماعات المهيمنة الجديدة على المشهد السوري، نتيجة لضغط الرأي العام أو تحقيق مكاسب سياسية على حساب القضايا الوطنية السورية التاريخية.
ثانيًا: مشروع الشرق الأوسط الجديد واحتواء سوريا:
مشروع “الشرق الأوسط الجديد” يعد من أكثر المشاريع السياسية إثارة للجدل، منذ طرحه لأول مرة في عام 2004. في ذلك الوقت، اعتبره العديد من المفكرين العرب مؤامرة كبرى لتفكيك العالم العربي، تهدف إلى منح إسرائيل تفوقًا على الدول العربية المجتمعة، وإلى تعزيز النفوذ الأمريكي والغربي في المنطقة العربية. بينما اعتبره آخرون مجرد تصور غير علمي وغير دقيق لإعادة تدوير نظرية الهيمنة الأمريكية على المنطقة، التي كانت قد بدأت تشهد خطوات جادة نحو الابتعاد عن واشنطن وتعزيز دورها الإقليمي بالتقارب مع الصين وروسيا، بعيدًا عن صراع المحاور بين الشرق والغرب. لكن مع التغيرات السياسية الدراماتيكية في سوريا، عاد الحديث عن “الشرق الأوسط الجديد” مجددًا، ليحمل ملامح جديدة مبنية على مبدأ “الفوضى الخلاقة”.
لا يمكن مناقشة مشروع الشرق الأوسط الجديد بدون الإشارة إلى الدور المركزي لإسرائيل، التي ترى فيه فرصة لتحقيق تغيير جذري في معادلة توازن القوى الإقليمي، من خلال تعزيز أمنها الداخلي. إسرائيل غيرت استراتيجيتها من الاعتماد على الحروب السريعة والتوسع في معاهدات السلام إلى اعتماد سياسة الردع المباشر، عبر شن الحروب وشن ضربات استباقية ضد خصومها في الإقليم. هذا التوجه يتماشى مع ما يؤمن به اليمين الإسرائيلي المتطرف، القائم على “نبوءات توراتية” تدعو إلى العنف، التقسيم، والتمزيق للخصوم، في إطار مشروع “شرق أوسط جديد” لا مكان فيه للمليشيات أو ما يُسمى “أشباه الدول”. إسرائيل تسعى لتطويع الأنظمة الإقليمية الرسمية لتتوافق مع هذا المسار، الذي تدعمه قوى عالمية كبرى على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
إلى جانب إسرائيل، تلعب إيران دورًا محوريًا في هذا المشروع، حيث عززت من فوضى المنطقة من خلال نشر ميليشياتها في العراق واليمن ولبنان، وحماية النظام السوري السابق. رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل نجحتا في إفشال جزء من هذا المشروع في سوريا عبر إسقاط نظام الأسد، إلا أن الوضع السوري ما زال يشهد تدهورًا إضافيًا بفعل التباين الطائفي والعرقي، ما يفتح المجال لمزيد من الفوضى ويغذي حالة الإسلامية المتطرفة.
من جانب آخر، تسعى تركيا إلى تحقيق مصالحها في مشروع الشرق الأوسط الجديد من خلال التوسع في الأراضي السورية، خاصة في الشمال، حيث تدعي أن هدفها هو منع تشكيل دولة كردية على حدودها الجنوبية، والتي تعتبرها تهديدًا لوحدتها الوطنية. تركيا تسعى أيضًا إلى منع أي دور كردي في سوريا الجديدة، وتعمل على إنشاء منطقة عازلة على طول الحدود التركية-السورية. هذا التوجه يتماشى مع المصالح الإسرائيلية في المنطقة، حيث تسعى إسرائيل إلى إزاحة النفوذ الإيراني من داخل سوريا، مقابل فتح المجال لحمايتها على الدروز في محافظات درعا والسويداء في جنوب سوريا.
إسرائيل وإيران وتركيا تقاطعت مصالحهم في تفكيك سوريا ضمن إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي بدأ عمليًا بحرب غزة ولا يزال يتطور في إطار محاور جديدة. أما الولايات المتحدة، فكانت تسعى إلى هدف مركزي هو إنهاء الوجود الإيراني في سوريا، وقطع إمداداتها لحزب الله عبر الأراضي السورية. وقد حققت هذا الهدف ضمنيًا بعد سيطرة هيئة تحرير الشام والفصائل التابعة لها على الحكم في دمشق. بالإضافة إلى هدفها الاستراتيجي طويل الأمد المتمثل في إنهاء الوجود الروسي في الساحل السوري، والعمل على القضاء على تنظيمات مثل القاعدة وداعش، التي تهدد الأمن القومي الأمريكي وحلفائها في المنطقة.
من خلال ما سبق، يتضح أن دمج سوريا الجديدة في مشروع الشرق الأوسط الجديد يتوقف على تداخل مصالح القوى الإقليمية والدولية الكبرى مثل إسرائيل وإيران وتركيا والولايات المتحدة، التي تدفع سوريا نحو الانضمام إلى هذا الشرق الأوسط الجديد بما يتوافق مع مصالحها الاستراتيجية. في الوقت نفسه، تظل سوريا في حالة اشتباك دائم مع هذه القوى، حيث يتم التأكيد على حماية مصالحها الجيوسياسية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الأوضاع السياسية الداخلية السورية ستظل تحت ضغط دولي مستمر، قد يتطور إلى تهديدات مباشرة للسلام الأهلي في سوريا، وسط تهديدات بتجزئتها، خاصة في المناطق الجنوبية والشمالية والشرقية.
ثالثًا: مشروع خط الغاز القطري-الاوربي واستغلال سوريا:
يعد مشروع خط الغاز القطري-الأوروبي عبر الأراضي السورية أحد المشاريع الطموحة التي قد تشكل نقطة تحول استراتيجية كبيرة بالنسبة لسوريا في ظل التحديات الاقتصادية والأمنية والسياسية الحالية. يعود هذا المشروع إلى عام 2008، حيث كان يهدف إلى نقل الغاز من حقل الشمال القطري إلى أوروبا عبر الأراضي السورية، مرورًا بالسعودية والأردن وتركيا. ورغم رفض النظام السوري للمشروع آنذاك، بدعم من روسيا التي اعتبرت المشروع تهديدًا لمصالحها في سوق الغاز الأوروبي، فإن الأوضاع الإقليمية المتغيرة اليوم قد توفر فرصة جديدة لإحياء المشروع. إذا تم تنفيذه، فإن المشروع قد يساهم بشكل كبير في تحسين الاقتصاد السوري الذي يعاني من تدهور شديد منذ بداية الحرب، حيث من المتوقع أن يعيد قطاع الطاقة السوري إلى مستويات إنتاجه السابقة، ما يمكن أن يوفر إيرادات سنوية ضخمة تصل إلى 15 مليار دولار، مما يسهم في تسريع إعادة الإعمار وتحسين البنية التحتية. بالإضافة إلى ذلك، سيكون المشروع ذا أهمية إستراتيجية كبيرة على مستوى الطاقة، حيث سيتيح لسوريا أن تكون جزءًا من شبكة إقليمية كبيرة لنقل الغاز، مما يعزز من دورها كمركز جيوسياسي في الشرق الأوسط. الإقليمية، تدفع تركيا نحو إعادة طرح المشروع نظرًا لموقعها الاستراتيجي في مجال الطاقة ورغبتها في المساهمة في إعادة إعمار سوريا. أما الولايات المتحدة فترى فيه فرصة لتقليل النفوذ الروسي في سوق الطاقة الأوروبي وتعزيز استراتيجيتها الإقليمية. على مستوى الاتحاد الأوروبي، يعزز المشروع من تنويع مصادر إمدادات الطاقة وتقليل الاعتماد على الغاز الروسي، خاصة في ظل تراجع حصة الغاز الروسي في السوق الأوروبية بعد الحرب في أوكرانيا. ورغم هذه الفرص، يبقى تنفيذ المشروع مشروطًا بتحقيق استقرار سياسي وأمني في سوريا، الذي يظل مطلبًا أساسيًا لجذب الاستثمارات الدولية وضمان بيئة استثمارية موثوقة. في النهاية، يُعتبر مشروع الغاز القطري-الأوروبي عبر سوريا فرصة استراتيجية كبيرة، ولكن نجاحه يتوقف على تجاوز التحديات الجيوسياسية والداخلية التي لا تزال تعيق تحقيق الاستقرار السياسي في البلاد.
رابعًا: محفزات ايجابية ومخاوف ضاغطة:
بالرغم من المحفزات السياسية والاقتصادية العديدة التي تدفع نحو نجاح مشروعات مثل ممر داوود، الشرق الأوسط الجديد، وخط غاز الأنبوب القطري-الأوروبي، إلا أنها تواجه في الوقت ذاته العديد من المخاوف التي قد تعرقل تحقيقها. يشكل التوازن بين المحفزات والمخاوف، إلى جانب الكلفة العالية والإرادة السياسية، عاملين رئيسيين قد يقودان هذه المشروعات إما إلى النجاح أو الفشل في ظل الظروف الإقليمية والعالمية المضطربة.
فيما يتعلق بالمحفزات الإيجابية، يمكن الإشارة إلى بعض النجاحات التي تحققت في بعض الدول العربية، حيث تمكنت من التخلص من الميليشيات الإيرانية، مثل حزب الله والحشد الشعبي، ما يتيح فرصة لتفكيك النفوذ الإيراني في المنطقة. كما أن تلك المشاريع قد تساهم في تعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي في بعض الدول المتأثرة بالنفوذ الإيراني، مثل العراق وسوريا.
لكن على الجانب الآخر، تعترض هذه المشاريع العديد من المخاوف والتحديات. على سبيل المثال، فإن تنفيذ ممر داوود يتطلب تخصيص مليارات الدولارات، وهو ما يصبح صعبًا في ظل الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها إسرائيل، خاصة بعد حرب غزة.
كما أن غموض التوجه الأمريكي بشأن دعم المشروع، في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب، يساهم في زيادة هذا التحدي، بالإضافة إلى الكلفة العسكرية التي يتطلبها إقامة قواعد عسكرية لتأمين المشروع. أما بالنسبة لمشروع الشرق الأوسط الجديد، فتعقيداته الكثيرة وعدم وضوح أبعاده تجعل منه مخططًا صعب التحقيق، خاصة مع المتغيرات الدولية والإقليمية المستمرة في سوريا، حيث تتشابك مصالح القوى الكبرى الإقليمية والدولية على الأرض السورية. وهذا يخلق بيئة معقدة تؤثر على فرص نجاح المشروع.
وفيما يتعلق بمشروع خط الغاز القطري-الأوروبي عبر سوريا، فإن له أهمية كبيرة من الناحية الجيوسياسية بالنسبة لدمشق. إذا تم تنفيذه، فإن المشروع قد يغير موازين القوى الإقليمية ويعزز من أمن الطاقة في سوريا، ما يمنحها نفوذًا كبيرًا في قضايا الاستقرار الاقتصادي والجيوسياسي بالمنطقة. لكن هذا المشروع لا يخلو من التحديات، أبرزها العقوبات الدولية التي لا تزال تفرضها القوى الغربية على سوريا، بالإضافة إلى عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة. كما أن المنافسة الإقليمية من خطوط الغاز الأخرى، مثل الخط الإيراني-الأوروبي والخط العربي، قد تشكل عقبة أمام تحقيق المشروع.
ومن جانب آخر، فإن التطورات التقنية في مجال الغاز الطبيعي المسال قد تقلل من أهمية خطوط الأنابيب التقليدية، ما يجعل مستقبل مشروع خط الغاز القطري-الأوروبي عبر سوريا غير مؤكد.
أخيرًا، تواجه قطر نفسها تحديات كبيرة في هذا المشروع، حيث تركز حاليًا على تعزيز صادراتها من الغاز المسال، ومن المتوقع أن تزيد قدرتها الإنتاجية من الغاز المسال بشكل كبير بحلول عام 2030. هذا التوجه قد يؤثر على أولويات قطر في المشاريع التي تشمل الغاز عبر الأنابيب. وبالتالي، فإن التغيرات في السوق والآراء المتباينة بين المنتجين الإقليميين والدوليين تشكل عوائق إضافية أمام تنفيذ مشروع خط الغاز القطري-الأوروبي عبر سوريا.
خامسًا: السيناريوهات المستقبلية المحتملة:
في ظل المحفزات والتحديات التي تواجه المشروعات الثلاثية، مثل ممر داوود، مشروع الشرق الأوسط الجديد، وخط الغاز القطري-الأوروبي، تبرز مجموعة من السيناريوهات المستقبلية المحتملة التي قد تشكل مستقبل المنطقة بناءً على كيفية تطور هذه المشاريع. ومن بين هذه السيناريوهات، يمكن رسم السيناريوهات التالية:
سيناريو التقسيم “المضر“:
هذا السيناريو يقوم على نجاح ممر داوود وارتباطه بمشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي يستند إلى مبدأ “الفوضى الخلاقة”. في هذا السياق، سيسهم تنفيذ هذا المخطط في تقسيم سوريا إلى دويلات على أساس “حدود الدم”، ويشمل إعادة هندسة خرائط المشرق العربي، كما تحدث عن ذلك كل من البريطاني برنارد لويس والأمريكي رالف بيترز. يعكس هذا السيناريو فوضى عارمة قد تساهم فيها الأطماع الإقليمية والدولية، ما يؤدي إلى انفراط عقد الدولة السورية وتحويلها إلى كيانات طائفية أو عرقية متفرقة. في ظل هذه الفوضى، تصبح إمكانية تقسيم سوريا أمرًا غير مستبعد، خاصة مع تعقد الأوضاع الإقليمية والدولية في المنطقة.
سيناريو التنمية “المفيدة:
في هذا السيناريو، ينجح مشروع خط الأنابيب القطري-الأوروبي عبر سوريا في جذب استثمارات عربية ودولية، مما يساهم في إعادة بناء الاقتصاد السوري عبر توفير بنية تحتية إقليمية للطاقة الناشئة. هذا السيناريو سيسمح بتدفق استثمارات ضخمة، ويمنح سوريا فرصًا استراتيجية على الصعيدين الإقليمي والعالمي. لكن التحدي الرئيسي في هذا السيناريو يتمثل في الموقف التركي، الذي يمكن أن يكون عقبة رئيسية أمام تنفيذ المشروع. تركيا قد تواجه قرارًا استراتيجيًا حاسمًا بشأن مشاركتها في هذا المشروع، خاصة في ظل العلاقات المعقدة بين أنقرة ودمشق. هذا الموقف التركي قد يعيق فرص نجاح المشروع في حال لم تتم معالجة المخاوف التركية من التواجد الإيراني في سوريا والتحديات الأمنية المرتبطة به.
سيناريو التداخل “المستقر“:
في هذا السيناريو، تتعاون جميع الفصائل والقوى في الداخل السوري مع الأطراف الإقليمية والدولية لتحقيق الاستقرار في سوريا، بحيث لا يتم فرض هيمنة من قبل أي قوة على البلاد. النجاح في هذا السيناريو يعتمد بشكل كبير على التفاوض بين الحكومة السورية والنظام السياسي الجديد وبين القوى الإقليمية والدولية، وذلك من خلال عملية تفاوضية متوازنة تحافظ على السيادة الوطنية السورية. يتطلب هذا السيناريو حكومة سورية موحدة ومستقرة تتجنب التدخلات الخارجية وتراعي المصالح السياسية والاقتصادية العليا للبلاد. ومع ذلك، يظل تحقيق هذا السيناريو تحديًا كبيرًا في ظل التنافسات الإقليمية والدولية والضغوط المتزايدة على الحكومة السورية.
في المجمل، كل سيناريو يحمل في طياته احتمالات متعددة ويعتمد بشكل كبير على كيفية إدارة الأوضاع الداخلية في سوريا وتفاعل القوى الإقليمية والدولية. ومع وجود عدة مكونات ومتغيرات تشكل الساحة السورية، من غير الممكن التنبؤ بالسيناريو الذي سيطغى في المستقبل، ولكن ما يظل مؤكدًا هو أن سوريا ستظل تمثل مركزًا حيويًا لمصالح القوى الكبرى، سواء كانت سياسية أو اقتصادية.
النتائج:
من خلال العرض السابق، يمكن استنتاج مجموعة من النتائج التي تبرز تأثيرات المشروعات الثلاثية على الوضع السوري، وهي كما يلي:
- تحويل سوريا إلى فريسة للمطامع الإقليمية والدولية:
جميع المشروعات الثلاثة تسعى إلى تحقيق مصالح سياسية واقتصادية للدول الكبرى على حساب سوريا. ففي حين يسعى مشروع ممر داوود إلى ترسيخ هيمنة إسرائيل على المنطقة عبر سوريا، يعتبر مشروع الشرق الأوسط الجديد محاولة أمريكية لفرض نفوذها على الشرق الأوسط. أما خط الغاز القطري، فيخدم مصالح قطر الاقتصادية دون مراعاة للمصلحة السورية. من جانب آخر، فإن تركيا هي المستفيد الأكبر من هذه المشاريع من خلال تعزيز نفوذها المتنامي على السلطة الحاكمة في دمشق.
- التناقض في أهداف الدول الداعمة للمشروعات:
بالرغم من أن الدول الداعمة للمشروعات الثلاثة (إسرائيل، الولايات المتحدة، تركيا، قطر) تتفق في هدف مشترك وهو إنهاء الوجود الإيراني في سوريا، إلا أن كل واحدة منها تسعى لتحقيق مصلحة خاصة بها، والتي غالبًا ما تتناقض مع استقرار سوريا ووحدتها. هؤلاء اللاعبون يسعون إلى تفكيك سوريا وتحويلها إلى دويلات طائفية وعرقية تتصارع فيما بينها، ما يعكس عدم وجود رؤية موحدة تجاه استقرار سوريا. كما أن السلطة الحاكمة في دمشق التي لها خلفية “متطرفة” تزيد من تعقيد هذا الوضع.
- عدم فاعلية الإدارة السورية الجديدة:
تشير الأوضاع الحالية إلى أن الحكومة السورية الجديدة غير قادرة على التأثير الفاعل في مشروعات هذه الدول. فهي لا تزال في موقع “المتفرج” أمام توسع النفوذ الإسرائيلي في تنفيذ مشروع ممر داوود، وتستسلم للنفوذ التركي والقطري والأمريكي دون النظر إلى المصالح القومية السورية. هذا العجز يوضح ضعف النظام السوري في إدارة الأوضاع وتحديد أولوياته الاستراتيجية.
- التأثير على وحدة الأراضي السورية وأمنها القومي:
إن الانجرار نحو أي من هذه المشاريع، أو حتى بعضها، قد يؤدي إلى تقويض وحدة الأراضي السورية وأمنها القومي. إذا استمرت سوريا في هذا المسار، فإنها ستواجه حالة من عدم الاستقرار الكامل أو الجزئي، وهو ما سيعوق بشكل كبير إرساء الديمقراطية، إجراء الانتخابات، والحصول على الدعم الدولي الذي يساهم في إعادة إعمار البلاد.
- تحقيق الاستقرار السياسي والأمني من خلال خط الأنابيب القطري-الأوروبي:
يرتبط نجاح مشروع خط الأنابيب القطري-الأوروبي بتحقيق استقرار سياسي وأمني داخلي، بالإضافة إلى تحقيق توافق مع الدول المجاورة التي قد تتعارض مصالحها الاقتصادية مع المشروع. إن التحدي هنا يكمن في قدرة الإدارة السورية الحالية على تحقيق هذا التوازن، خصوصًا في ظل المصالح المتنافسة في المنطقة.
- التحديات المالية لمشروع خط الغاز القطري-الأوروبي:
يشكل ارتفاع تكلفة تنفيذ مشروع خط الغاز القطري-الأوروبي تحديًا كبيرًا، خاصة في ظل توجه قطر نحو التوسع في إنتاج الغاز المسال، الذي يعد أقل تكلفة وأسهل في عمليات النقل. هذا التحول قد يؤدي إلى تراجع أهمية مشروع خط الأنابيب التقليدي، حيث يمكن أن تفضل قطر توجيه استثماراتها نحو الغاز المسال الذي يحقق لها أرباحًا أكبر وأسرع.
- ضرورة التنسيق والتفاهم الداخلي والخارجي:
في ضوء التحديات الكبيرة التي تواجهها سوريا، يتطلب الحفاظ على وحدة الدولة تنسيقًا مستمرًا بين كافة مكونات المجتمع السوري، والتشاور الجاد مع محيط دمشق العربي والإقليمي والدولي. يجب أن يتم التوصل إلى تفاهمات تضمن مصالح الشعب السوري أولاً وأخيرًا، مع مراعاة المصالح الإقليمية والدولية المتشابكة، لتحقيق استقرار دائم في سوريا.
تظل هذه النتائج بمثابة مؤشر على أن المشروعات الثلاثية، رغم ما تحمله من فرص اقتصادية، فإنها تشكل تهديدات كبيرة على استقرار سوريا ووحدتها. يتطلب الوضع الحالي تعاونًا داخليًا وخارجيًا لحماية المصالح الوطنية السورية وضمان عودة الاستقرار والأمن للبلاد.
سوريا في مرمي مشروعات السيطرة
مصطفى أمين عامر
المراجع
(1)مروة كريدية ،ممر داوود بين النبوءة التوراتية والتسوية السياسية،موقع إيلاف،23-11-2024م،الرابطhttps://elaph.com/Web/ElaphWriter/2024/11/1553876.
(2)محمد جرادات، ممرّ داوود وسهم الباشان أم لعنة العقد الثامن؟،موقع الميادين،25-1-2025م،الرابط https://www.almayadeen.net/articles
(3)برسام محمدي، قراءة في مخطط الكيان الصهيوني لإنشاء ممر داود، موقع المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية،29-12-2024م،الرابط https://www.scfr.ir/ar/103-ar/313587/
(4)إسرائيل تشيّد 7 قواعد عسكرية بالمنطقة العازلة في سوريا،موقع روسيا اليوم،19-2-2025م،الرابط https://arabic.rt.com/middle_east/1647918
(5)نتنياهو: سنمنع ظهور أي تهديد من سوريا،موقع سكاي نيوزعربية،16-2-2025م،الرابط https://www.skynewsarabia.com/middle-east/1777498
(6)إسرائيل تشيّد 7 قواعد عسكرية بالمنطقة العازلة في سوريا،مرجع سابق.
(7)برسام محمدي،المرجع السابق.
(8)مروة كريدية ،المرجع السابق.
(9)ابراهيم ابراش،أحداث سوريا ومشروع الشرق الأوسط الجديد؟،وكالة معا الاخبارية،8-12-2024م،الرابطhttps://www.maannews.net/articles/2130269
(10)معتمر أمين،سوريا بوابة الشرق الأوسط الجديد،موقع جريدة الشروق،12-12-2024م،الرابط https://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=12122024
(11)محمد توفيق علاوي،مشروع الشرق الأوسط الجديد بعد سقوط بشار الأسد،موقع شفق نيوز،9-12-2024م،الرابط https://shafaq.com/ar
(12)قطر تحسم الجدل حول مشروع خط أنابيب الغاز عبر سوريا،موقع الطاقة،8-1-2025م،الرابطhttps://attaqa.net/2025/01/08
(13)هل تعيد سوريا إحياء مشروع خط الغاز مع تركيا وقطر وصولاً إلى أوروبا؟،موقع الشرق بلومبيرج،2-1-2025م،الرابطhttps://asharqbusiness.com/power/65337
(14)قطر تحسم الجدل حول مشروع خط أنابيب الغاز عبر سوريا،مرجع سابق.
(15)هل تعيد سوريا إحياء مشروع خط الغاز مع تركيا وقطر وصولاً إلى أوروبا؟،مرجع سابق. (16)”مشروع أنبوب الغاز القطري” عبر سورية.. هل أصبح من الماضي؟،موقع The Cradle العربي،15-1-2025م،الرابط https://thecradlearabic.com/articles-id/28471
(17)هل تعيد سوريا إحياء مشروع خط الغاز مع تركيا وقطر وصولاً إلى أوروبا؟،مرجع سابق. (18)مروة كريدية ،مرجع سابق.
(19)برسام محمدي، المرجع السابق.
(20)محمد الغباري ،الفكر الاستراتيجى لإقامة الدولة اليهودية ومشروع الشرق الأوسط الجديد،موقع مجلة السياسية الدولية،مؤسسة الاهرام المصرية،8-1-2024م،الرابط https://www.siyassa.org.eg/News/21750.aspx
(21) قطرتحسم الجدل حول مشروع خط أنابيب الغاز عبر سوريا،المرجع السابق.
(22)”مشروع أنبوب الغاز القطري” عبر سورية.. هل أصبح من الماضي؟،موقع The Cradle العربي،15-1-2025م،الرابط https://thecradlearabic.com/articles-id/28471
(23)قطر تحسم الجدل حول مشروع خط أنابيب الغاز عبر سوريا،المرجع السابق .
(24)هل تعيد سوريا إحياء مشروع خط الغاز مع تركيا وقطر وصولاً إلى أوروبا؟،المرجع السابق.
(25)أيمن سمير،بين التوحد والتفكك:المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد،مركز المستقبل للدراسات المتقدمة،12-12-2024م،الرابط https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/9873
(26) أحمد سلطان، توقعات مستقبلية: الدور التركي في إعمار سوريا وإحياء مشروع خطوط أنابيب الغاز،المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية،الدراسات الاقتصادية وقضايا الطاقة،30-12-2024م،الرابط https://ecss.com.eg/51214/