تتنوع السيناريوهات والمسارات التي قد يعتمدها تنظيم “داعش” في سوريا في ظل الأوضاع السياسية والعسكرية المتغيرة، خاصة بعد سيطرة هيئة تحرير الشام على السلطة وإسقاط نظام بشار الأسد، وتحول البلاد إلى مرحلة انتقالية تحت قيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) سابقًا. في هذا السياق، يُعتبر تنظيم “داعش” تهديدًا وجوديًا للدولة السورية في الحاضر والمستقبل، خصوصًا مع تنامي قدراته وانتشاره في مناطق سورية متعددة، تتوزع بين قوى محلية مسلحة وميليشيات تحمل أدوات التطرف والعنف. وعلى الرغم من سقوط معقله الأخير في الباغوز عام 2019، لا تزال رؤية التنظيم حول سوريا قائمة على البقاء والتمدد، مدفوعة بالحاجة إلى الاستفادة من حالة الانشغال الوطني بتثبيت وجود الدولة الجديدة وتعزيز نفوذها على كامل الأراضي السورية.
يهدف هذا التحليل الاستشرافي إلى تسليط الضوء على سيناريوهات وتوجهات تواجد تنظيم “داعش” في سوريا، وتحديد الاستراتيجيات التي قد يتبعها التنظيم لتوسيع مناطق نفوذه وانتشاره، فضلاً عن استكشاف مسارات جديدة للتمدد تضمن له استمرار وجوده وتوسعه، حتى في ظل الضغوط الأمنية والعسكرية التي قد يواجهها من قبل السلطة الجديدة.
الاستراتيجيات المحتملة للتنظيم في المستقبل يمكن أن تُحدد بناءً على رصد وتحليل العمليات التي نفذها سابقًا، مع أخذ التوقعات المستقبلية بعين الاعتبار. السيناريوهات التي قد ينتهجها التنظيم تتضمن العناصر التالية:
اولاً: الانتشار والتمدد في شرق سوريا:
من المتوقع أن يستمر تنظيم “داعش” في تنويع مناطق انتشاره في سوريا، مستفيدًا من الجغرافيا الصحراوية المفتوحة التي تتيح له تنفيذ هجمات خاطفة وعمليات إرهابية باستخدام أسلحة خفيفة. سينتشر التنظيم في مناطق متعددة تشمل البادية السورية، حيث يتركز في مناطق جبل البشري بريف الرقة، وأثريا، والرهجان، وريف حماة الشرقي، إضافة إلى شرق وجنوب بادية السخنة وتدمر في ريف حمص الشرقي، وكذلك بادية دير الزور وشرق تدمر والقلمون الشرقي بالقرب من تلال الصفا.
تعتمد استراتيجية التنظيم في هذه المناطق على استغلال التضاريس الصحراوية المكشوفة التي توفر له سهولة الحركة والتخفي. كما يعتمد على تنفيذ الهجمات المباغتة، ونشر الألغام، وتنظيم الكمائن، وهي أساليب تتيح له إحداث حالة من الاضطراب المستمر داخل المناطق التي يسيطر عليها أو يحاول العودة إليها.
هذا التوسع المستمر في المناطق الصحراوية يعزز من قدرة التنظيم على شن الهجمات بشكل دوري ويضمن له إعادة تموضع خلاياه في جغرافية كانت تحت سيطرته خلال فترة دولته التي أعلن عن تأسيسها في عام 2014. كما أن هذه الاستراتيجيات تتيح له البقاء في مناطق شاسعة في شمال وشرق سوريا، مما يرسخ من فكرة قدرة التنظيم على التواجد المستمر والتمدد رغم الخسائر العسكرية السابقة.
ثانياً: استهداف الجيش السوري “الميلشاوي” الجديد:
من المتوقع أن يستمر تنظيم “داعش” في تفعيل استراتيجيته القائمة على “الاستنزاف” ضد الجيش السوري الميلشاوي الجديد، في محاولة لإضعافه وزعزعة استقرار مناطق تواجده. ستتركز هذه العمليات بشكل خاص على المواقع العسكرية في المناطق المتاخمة لمناطق سيطرة التنظيم، مثل محافظات دير الزور وحمص وحماة، حيث يعتزم التنظيم التوسع في تنفيذ عمليات هجومية ضد القوات الحكومية.
التنظيم، الذي يعمد إلى استنزاف الجيوش والميليشيات التي تواجهه، سيستمر في تبني أساليب متعددة ضمن استراتيجية “الاستنزاف” التي يعتمدها ضد الجيش السوري الجديد. على غرار الدعوة التي أطلقها في يناير 2024 تحت شعار “غزوة وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ”، والتي استمرت لعدة شهور، سيواصل داعش العمل على تنفيذ عمليات مشابهة مع التركيز على الأساليب القتالية التالية:
- التوسع في نصب الكمائن: سيقوم التنظيم بنصب الكمائن الثابتة والمتحركة باستخدام الأسلحة الرشاشة والقنابل اليدوية، بالإضافة إلى زرع العبوات الناسفة على الطرق التي يستخدمها الجيش والمليشيات. الهدف من ذلك هو تعطيل تقدم القوات وعرقلة وصولها إلى مواقع معينة.
- زرع العبوات الناسفة على الطرق: سيستمر التنظيم في زرع العبوات الناسفة على الطرق التي يسلكها الجيش ووسائل النقل العسكرية والمدنية، خاصة في المناطق الصحراوية المفتوحة مثل بادية تدمر وشرق حمص، بهدف إبطاء الحركة وتأمين عمليات انسحاب سهلة لعناصره.
- الهجوم على الثكنات العسكرية: سيهاجم التنظيم الثكنات العسكرية التي استولى عليها الجيش السوري الميلشاوي، باستخدام السيارات المفخخة والمجموعات الانغماسية، خاصة في المناطق القريبة من المدن التي قد توفر حماية أو غطاء من الهجمات.
- الاستهداف الفردي: سيتبع داعش أسلوب الاستهداف الفردي لعناصر الجيش والمليشيات باستخدام المدافع الرشاشة والمسدسات الكاتمة للصوت، بعد رصدهم أثناء مغادرتهم لمعسكراتهم. هذا الأسلوب تم تطبيقه في مناطق مثل معدان في الرقة، السلمية في شرق حماة، وريف تدمر والسخنة في حمص.
- تفعيل خلاياه النائمة: سيعمل التنظيم على تفعيل خلاياه النائمة في مناطق متفرقة مثل بلدة سويدان والعزبة في منطقة خشام، وقرية جزرة ميلاج في منطقة كسرة، وبلدة الحصان والحويج في ذيبان، بالإضافة إلى مناطق أبو حمام وبلدة البصيرة في دير الزور، وقرى وادي الرمل في الحدادية جنوبي الحسكة، وغيرها من المناطق الاستراتيجية مثل ريف دمشق وريف السويداء.
من خلال هذه العمليات المتنوعة والمترابطة، يهدف التنظيم إلى استنزاف القوى العسكرية التي تواجهه، واستمرار العمليات الهجومية في المناطق المختلفة من سوريا لزعزعة استقرار النظام الجديد في المناطق التي يسيطر عليها الجيش السوري الميلشاوي.
ثالثاً: استنزاف قوات سوريا الديمقراطية:
تعد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) منذ تأسيسها قوة ضاغطة على تنظيم داعش، مما دفع الأخير إلى جعلها هدفاً رئيسياً في استراتيجياته العسكرية. يتمثل الهدف الأساسي للتنظيم في تكبيد هذه القوات أكبر قدر من الخسائر، سعياً لإضعافها واستنزاف قوتها العسكرية واللوجستية. يعتمد داعش في استهدافه لقوات سوريا الديمقراطية على عدة محفزات ودوافع، نذكر منها:
- دورها كـ “رأس حربة” في القضاء على التنظيم من قبل الولايات المتحدة والتحالف الدولي، ما أثار لدى داعش شعوراً بالثأر ضدها. باعتبارها قوة “مرتدة” و”عميلة”، يعتبر التنظيم أنه يجب القضاء عليها.
- سيطرتها على السجون التي تضم مقاتلي التنظيم، مما يجعل من الممكن أن يسهم تحريرهم في تعزيز قدراته القتالية.
- وجود “أشبال الخلافة” داخل مخيمات تحت حماية قوات سوريا الديمقراطية، وهم يشكلون قاعدة قتالية للتنظيم في المستقبل، مما يمثل حافزاً إضافياً لاستمرار استهدافهم.
وبالإضافة إلى ذلك، يستخدم داعش مجموعة من الاستراتيجيات الموجهة نحو استنزاف قوات سوريا الديمقراطية، أبرزها:
- تقييد تحركات قوات سوريا الديمقراطية من خلال الحد من انتشار دورياتها، خاصة في مناطق شمال شرقي الرقة، مع استغلال انشغالها في قتال الميليشيات التابعة لتركيا حول سد تشرين.
- ضغط عسكري مكثف لدفع قوات سوريا الديمقراطية إلى إعادة التموضع والانتشار، مما يساعد في إظهار عجزها عن التصدي المستمر لداعش، بسبب اعتمادها على الدعم العسكري والسياسي الأمريكي، بالإضافة إلى تأثيرات الضغوط التركية عليها بعد الانسحاب الأمريكي.
- حرب اقتصادية ضدها عبر استهداف المحاصيل الزراعية وحرقها، وكذلك استهداف صهاريج النفط التابعة لشركة القاطرجي على الطرق المؤدية إلى المناطق الكردية، خاصة القادمة من الرقة والشمال السوري.
- استهداف القيادات من قوات سوريا الديمقراطية، كما حدث في هجمات سابقة على قادة محليين مثل داود الدبجان وسليمان العبود اللطو، وإعدام المتعاونين مع القوات الكردية.
- نصب الحواجز الأمنية في مناطق دير الزور لإرهاب المتعاونين مع قوات سوريا الديمقراطية، كما جرى في بلدة الجرذي الغربي وذبحهم، فضلاً عن توسيع شبكة المفارز الأمنية لاستهداف أكبر عدد من القوات الكردية.
- إجهاد مستمر للقوات الكردية بهدف إضعافهم، مما يسمح لتنظيم داعش بإعادة نشاطه في مناطق مختلفة مثل ريف البوكمال وريف تدمر، إضافة إلى مناطق أخرى تحت الحماية الأمريكية.
ومن خلال هذه الاستراتيجيات، يستمر داعش في تهديد قوات سوريا الديمقراطية ويمتلك القدرة على التمدد، مستفيداً من شبكة تهريب واسعة تمولها شبكات فساد متغلغلة داخل النظام السوري. لا يزال التنظيم يمتلك موارد مالية تمكنه من الحصول على الإمدادات الغذائية والطبية والتسليحية، كما أن مقاتليه يمتلكون قدرة كبيرة على التنقل والهروب بين مناطق مختلفة في صحاري العراق وسوريا.
تحليل استشرافي
تحليل: مصطفي أمين عامر
باحث متخصص في شؤون الجماعات المتطرفة