منذ بداية الصراع السوري في عام 2011، كان وجود مخزونات من الأسلحة الكيميائية في سوريا مصدر قلق للمجتمع الدولي. ووفقاً لتقارير الاستخبارات، طوّرت سوريا برنامجاً للأسلحة الكيميائية منذ الثمانينيات، شمل غاز الخردل والسارين وVX، بالإضافة إلى صواريخ قصيرة المدى للتشتيت. كان الهدف من هذا البرنامج ضمان قدرة ردع ضد إسرائيل.
في الأيام الأولى من الصراع، كانت هناك مخاوف من قدرة الجماعات المعارضة على الوصول إلى هذه الأسلحة الكيميائية. ومنذ هجمات 11 سبتمبر 2001، اعتُبر احتمال حصول جماعات غير حكومية على أسلحة كيميائية وبيولوجية وإشعاعية ونووية من أكبر التهديدات للأمن الدولي.
كما زاد هذا القلق بسبب احتمال استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية ضد شعبه. ونظراً لأن سوريا لم تكن طرفاً في اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، لم تكن ملزَمة باتباع معايير هذه الاتفاقية.
خلال العامين الأولين من الصراع، استخدم الأطراف أسلحة تقليدية، لكن كانت هناك شكوك بشأن استخدام المواد الكيميائية من قبل الجانبين، رغم صعوبة تحديد المركّبات المستخدمة. ومن خلال البيانات المتاحة وأعداد الضحايا، كان من الصعب التأكد مما إذا كانت الأسلحة الكيميائية قد استخدمت أم أن الضرر كان نتيجة استخدام مواد كيميائية في بيئات حضرية.
وفي أغسطس 2012، حذر الرئيس الأمريكي أوباما من أن استخدام الأسلحة الكيميائية من أي طرف سيكون “خطاً أحمر”، وأن تجاوزه سيؤدي إلى تدخل عسكري أمريكي. في 21 أغسطس 2013، وقع هجوم في الغوطة باستخدام غاز السارين، مما أسفر عن مقتل حوالي 1400 شخص، معظمهم من المدنيين. هذا الهجوم كان نقطة تحوّل في تطور الصراع، حيث تم تجاوز الخط الأحمر الذي حدده أوباما، ما كان يستدعي رداً دولياً.
لكن الرد الدولي لم يتضمن تدخلاً عسكرياً مباشراً ضد النظام السوري. بدلاً من ذلك، اتفقت روسيا والولايات المتحدة في سبتمبر 2013 على “إطار القضاء على الأسلحة الكيميائية السورية”، الذي شمل انضمام سوريا إلى اتفاقية الأسلحة الكيميائية. لاحقاً، أصدر مجلس الأمن القرار 2118 (2013) الذي يطالب سوريا بتدمير أسلحتها الكيميائية بموجب انضمامها إلى الاتفاقية.
في 14 أكتوبر 2013، أصبحت سوريا الدولة رقم 190 في اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، وبدأت عملية الامتثال لمتطلبات الاتفاقية تحت إشراف منظمة حظر الأسلحة الكيميائية. في إعلانها، أكدت سوريا أنها تمتلك 1300 طن من الأسلحة الكيميائية (السارين وغاز الخردل وVX) والمواد الأولية. كان من المقرر تدمير هذا المخزون بالكامل وفقاً للاتفاقية، باستخدام تقنيات آمنة مثل الحرق أو التحليل المائي.
نظرًا لصعوبة تدمير الأسلحة الكيميائية داخل سوريا بسبب الصراع، تم التنسيق دولياً لنقل هذه الأسلحة وتدميرها في البحر على متن السفينة الأمريكية “كاب راي”. كانت السفينة مجهزة بمرافق لتدمير الأسلحة الكيميائية في ظروف آمنة، بما يتماشى مع معايير اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية.
اكتملت عملية تدمير الأسلحة الكيميائية السورية في نهاية عام 2014، وقد تم تكريم جهود منظمة حظر الأسلحة الكيميائية خلال هذه العملية بمنحها جائزة نوبل للسلام في عام 2013.
على الرغم من هذا الإنجاز، استمر استخدام المواد الكيميائية السامة في الصراع، مثل الكلور، في السنوات التالية. كما أضافت الحملات التضليلية والغموض حول المسؤولين عن الهجمات إلى تعقيد الوضع، مما زاد من الشكوك حول قدرة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والمجتمع الدولي على إنهاء استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا.
شكل الهجوم الكيميائي في خان شيخون بمحافظة إدلب في 4 أبريل 2017، والذي أسفر عن مقتل 90 شخصاً، بينهم 30 طفلاً، نقطة تحوّل جديدة في الصراع. ورغم عدم تحديد المركب المستخدم بدقة، إلا أن الصور والشهادات من السكان ومسار القذائف أكدت استخدام الأسلحة الكيميائية. استجابت الولايات المتحدة وفرنسا بتوجيه الاتهام لنظام بشار الأسد، ونتج عن ذلك هجوم أمريكي مباشر على قاعدة الشعيرات الجوية. هذا الهجوم كان أول تدخل عسكري أمريكي في سوريا، وتزامن مع بداية تفويض ترامب. بعد ذلك، أكدت بعثة تقصي الحقائق التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية أن غاز السارين قد استخدم بالفعل في الهجوم.
أدى هذا الهجوم إلى إثبات أن سوريا لا تزال تمتلك أسلحة كيميائية على أراضيها، وأنها لم تقدم إعلاناً دقيقاً عن مخزوناتها كما كان متفقاً عليه بعد انضمامها إلى اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية في 2013.
في السنوات التالية، أظهرت تقارير المفتشين أن تصريحات سوريا بشأن حجم ترسانتها الكيميائية كانت غير مكتملة. كما أظهرت التحليلات في المرافق المعلَنة وجود مواد كيميائية لم تذكر الحكومة السورية مصدرها. علاوة على ذلك، تم الاشتباه في تورط منشآت أخرى في برنامج الأسلحة الكيميائية التي لم تتمكن منظمة حظر الأسلحة الكيميائية من تفتيشها.
وبالنظر إلى هذا الفشل في التعاون من الحكومة السورية، تم اعتماد القرار C-25/DEC.9 في المؤتمر الخامس والعشرين للدول الأطراف في اتفاقية الأسلحة الكيميائية الذي عقد في أبريل 2021. بموجب هذا القرار، تم تعليق بعض حقوق وامتيازات سوريا ضمن الاتفاقية، مما يعني أنها لم تعد قادرة على التصويت أو المشاركة بنشاط في اجتماعات الدول الأطراف.
استجابة منظّمة حظر الأسلحة الكيميائية أثناء الصراع:
منذ بداية الصراع السوري واستخدام الأسلحة الكيميائية في 23 كانون الأول/ديسمبر 2012، حتى نهاية عام 2024، كانت حكومة بشار الأسد مسؤولة عن 98٪ من الهجمات الكيميائية، مما أسفر عن مقتل 1514 شخصًا، من بينهم 214 امرأة و262 طفلاً، إضافة إلى إصابة أكثر من 12000 شخص. هذه الأرقام تجعل الصراع السوري أحد أكبر التحديات لمنظّمة حظر الأسلحة الكيميائية.
كانت المنظمة مضطرة لتطوير استراتيجيات جديدة لمواصلة عملها على القضاء على الأسلحة الكيميائية وضمان الامتثال من قبل سوريا. في هذا السياق، تم إنشاء فريق تقييم الإعلان (DAT) في عام 2014، وهو فريق متخصص يعمل مع السلطات السورية لمراجعة وتوضيح أي تناقضات في إعلان سوريا بشأن أسلحتها الكيميائية. بالإضافة إلى ذلك، تم تأسيس بعثات مثل بعثة تقصّي الحقائق وفريق التحقيق الدولي التابعين لمنظّمة حظر الأسلحة الكيميائية للتركيز على تحديد نوع الأسلحة الكيميائية المستخدمة ومن المسؤول عن الهجمات.
تم تعديل إعلان سوريا حول ترسانتها الكيميائية عدة مرات، بما في ذلك إدراج منشآت جديدة وأسلحة لم تكن قد أُعلن عنها من قبل. ورغم التقدّم في هذا المجال، لا يزال هناك العديد من القضايا العالقة التي تثير القلق، مثل كمية الذخائر التي زُعم أنها دُمِّرت قبل انضمام سوريا إلى الاتفاقية، وأماكن بعض المنشآت التي لم يتم تفتيشها بعد.
بالإضافة إلى هذه التحديات، فإن الأزمة السورية تواصل تأثيرها على جهود منظمة حظر الأسلحة الكيميائية. ففي بعض الحالات، تمكنت بعثة تقصّي الحقائق من تحديد نوع المركّب الكيميائي المستخدم في الهجمات، وتحديد مرتكبي الهجمات، مثل الهجوم بالغاز السارين في خان شيخون عام 2017 الذي نسبته الدول الغربية إلى الحكومة السورية.
الأسلحة الكيميائية وحكومة جديدة في سوريا:
في ظل المتغيرات السياسية التي تشهدها سوريا مع بروز حكومة انتقالية جديدة بعد سقوط نظام بشار الأسد، يظل مصير الأسلحة الكيميائية ومرافق إنتاجها من أهم القضايا العالقة. يتعين على الحكومة الجديدة الامتثال للقوانين الدولية المتعلقة بالإفصاح الكامل عن الأسلحة الكيميائية، وهو ما يشكل تحديًا كبيرًا.
على الرغم من تغير النظام في سوريا، تبقى التحديات كبيرة في مجال إعادة بناء البلاد والتعامل مع القضايا الأمنية والاقتصادية. في الوقت نفسه، قصف إسرائيل المستمر للمرافق العسكرية المرتبطة بالبرنامج الكيميائي السوري يعكس القلق الإقليمي بشأن إمكانية وقوع هذه الأسلحة في يد جماعات مسلحة أخرى.
إن التغيير السياسي في سوريا يفتح الباب أمام إمكانية القضاء النهائي على الأسلحة الكيميائية في البلاد، ولكن يتطلب هذا التعاون الكامل من الحكومة السورية الجديدة وتعاون المجتمع الدولي لضمان تنفيذ الاتفاقيات المتعلقة بتدمير هذه الأسلحة.
التصعيد المحتمل في شمال شرق سوريا يشكل مصدر قلق ليس فقط بسبب الحركات المتطرفة مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ولكن أيضاً بسبب التوترات الداخلية بين الفصائل المختلفة والمصالح المتضاربة التي تعرقل مسار الاستقرار. في سياق هذا التصعيد، تبرز أهمية موقف أحمد الشرع الذي يسعى إلى تحقيق حكومة شاملة، لكن التحديات المتمثلة في التوترات العرقية والفصائلية تجعل من الصعب تصور إعادة الإعمار بشكل سريع وفعال.
أما بالنسبة للأسلحة الكيميائية، فإن السؤال الأكثر إلحاحاً هو ما إذا كان أحمد الشرع سينجح في الابتعاد عن التطرف الجهادي والتحول إلى موقف أكثر اعتدالاً. فيما يخص هيئة تحرير الشام، تعتبر المنظمة من بين القوى الفاعلة في المنطقة التي تشكل مفارقة في هذا السياق، كونها تواصل استضافة المتطرفين على الرغم من تعهداتها بتدمير مخزوناتها من الأسلحة الكيميائية. في الوقت الحالي، يبقى المجتمع الدولي في حالة شك بشأن قدرتها على الوفاء بتلك التعهدات، خاصة مع استمرار انعدام الأمن في المنطقة.
من جانب آخر، قامت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية بالتواصل مع السلطات السورية الجديدة بشأن قضايا الأسلحة الكيميائية، والتي ما زالت قيد التحقيق ولم تُحسم بعد في عهد النظام السابق. وستحتاج المنظمة إلى التعاون المستمر مع السلطات السورية لضمان الوصول إلى مواقع الأسلحة الكيميائية وتدميرها بطريقة آمنة، وهو ما سيكون صعباً دون اتفاق جديد مع الحكومة الانتقالية.
وفيما يتعلق بالمساءلة الدولية، فإن الفرصة قد تكون سانحة الآن لمحاسبة المسؤولين عن استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا، سواء كان ذلك من خلال آليات محلية أو عبر التعاون الدولي، مثل الإجراءات القضائية التي بدأت في دول مثل ألمانيا وفرنسا. ومع ذلك، فإن هذه الجهود قد تواجه تحديات بسبب تأثير القوى الكبرى مثل روسيا على مجلس الأمن الدولي.
وفي هذا السياق، تعد الإجراءات السريعة والمحددة من قبل الحكومة السورية الجديدة أمراً ضرورياً لضمان عدم تكرار استخدام الأسلحة الكيميائية. ويجب أن تشمل هذه الإجراءات التزاماً كاملاً بالاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية الأسلحة الكيميائية وقرار الأمم المتحدة رقم 1540، لضمان أن سوريا لا تصبح مركزاً جديداً للأسلحة الكيميائية أو نقطة انطلاق لتهديدات أكبر للمنطقة والعالم.
ختاماً، إذا تم تحقيق هذه الأهداف، فإن ذلك قد يشكل بداية جديدة لسوريا في إطار بيئة آمنة ومستقرة، لكن هذا يعتمد على قدرة الحكومة الجديدة على اتخاذ خطوات حاسمة ومتكاملة، بالتعاون مع المجتمع الدولي، للتعامل مع الملفات المعقدة التي تواجهها.
ترجمة يوسف سامي مصري
رابط البحث:
https://www.ifimes.org/en/researches/syria-2025-the-historical-syrian-project-from-revolution-to-a-modern-inclusive-civil-state/5437